أيقظتني الطفلة

كنت مُستمتعًا في حياتي بألوانها المُختلفة، لا تأتي مُناسبة، أكانت كبيرة، أم صغيرة تفاصليها، إلا وكانت من أولوياتي، أدُّس فيها استمتاعي، وأداعبُها بكل مساماتي.

ذات يوم، قادتني الرغبة إلى كُورنيش القطيف، لأمتع ناظري بأمواج بحره الزرقاء، جلست على الكرسي الذي اشتريته من أحد المتاجر الإلكترونية، وضعته في السيارة، لأقوم باستخدامه في أي مكان يرُوق لي، كان هاتفي المحمول يشدّني إليه الفُضول، للتسكُع في دهاليزه، وقراءة ما يُرسله الأصدقاء من “النّكت”، ثمَّة سر كبير في الضحك، وقدرته على تفعيل الذات، بغربلتها إيجابيًا، لتُذيب الألم، هذا ما قرأته زوجتي لي في لحظة، كانت فيها معي قبل أن يحدُث ما حدث.

هُناك كلمات، إن قرأناها أو سمعناها، تسكُن ذاكرتنا، فالكلمات، كحُبيبات المطر، تسقُط على الأرض الجرداء، لتُحولها إلى بساتين ربيعية المنظر، نتذوق من خلالها الأمل.

وصلت إلى الكُورنيش، أوقفت سيارتي، وعندما هممت بالنزول، كنت أحدق في المقعد الجانبي، فأغمضت عينيَّ بُرهة، واعتصرت قلبي، ثم أغلقت باب السيارة.

كانت هُناك أسرة على الطرف الأيمن، بالقرب من ظلي الساقط على العشب، كان طفل وطفلة، كأنهُما توأمان، يلعبان بالكُرة، وعندما أرادت الطفلة أن تركُل الكُرة وقعت على الأرض، وجاءت الكُرة عند قدميَّ، هُنا أحسست أن عقارب الساعة توقف إحساسُها بالوقت، وأن عينيَّ لم تعُد تُبصر شيئًا، وأن نبضات القلب لا أقوى على الإصغاء لها، أو الإحساس بتدفقها بين شرايين ذاتي.

حرارة الشَّمس في جُزء من المكان، تقع على خدي المُقابل لهُما، شعرت بصعوبة، كيف لحدقتيّ البصر، أن تأتي عميقة العينين، كطبيعتهما.

رفعت طرفي، تركت لقدميَّ أن تُعتق اللحظات، وتجعلني أحدق في هذه الطفلة البريئة، النضرة العينين الزرقاوين، والوجنتين الحمراوين الواقفة أمامي، وتطلب مني أن أطلق سراح الكُرة من بين قدميَّ، لم أقم بركلها، ما زلت أمعن التحديق في وجنتيها وعينيها، وخاطبتها في ذاتي، كهمس.

في حضرة الجمال، تستفيق الدَّهشة بلا سبب مُقنع، حيث إنه في كُلّ الأشياء، نغرُس أرواحنا فيها، لتغدو جميلة دافئة الجمال.

رجع إلى حُجرته، بدأت خُطواته ترتعش، أخذ يُمعن النظر في كُل شيء، تُدغدغه الذكريات في برهة، لتُحيكه فرحًا من خيوطها، ولكن سراعًا ما تحُفه الأوجاع من كل الزوايا.

هُنا، فوق الكنبة اليُمنى، كانت تجلس، ابتسامتها، يفوح منها عطر العُود، يا لهذه الابتسامة، إذا ما ارتسمت على شفتيها، تشعر أن البُستان بألوان ربيعه، وندى عُشبه، يتراقص على شفتيها، كانسياب حُبيبات المطر على نافذة يومك، يُشاغبه الضّوء، هُنا كُنا قبل عشر سنوات، يتسامر الحزن على ملامحنا، نرتقب اليوم، الذي يرزقنا الله به مولودًا، يكون الحياة لنا، تمرُّ السُّنون، لم نترك مشفى في المنطقة، إلا وكان لنا فيه موعد، نترقبُه.

الآن، أستحضر كلماتها، حين جاءت إلى مكتبي، كُنت مشغولًا بكتابة قصة جديدة، تمشي بخطوات هادئة، لمحتها بطرف عينيّ، وضعت اليراع جانبًا، وأجلستها جانبي.

وهو واضع يديه، يتحسس ملامح الكُرسي، يتنفس بحرقة، يتأمله، ويُصغي لها، الآن يُصغي، أخبرته:

فاطمة: حبيبي، لقد أرهقتني السَّنوات العجاف بلا طفل أو طفلة، تكون الضّوء، الذي نُبصر به الحياة ونبضها، لنتنفس الحنان، لم أعد أستطيع التجلد، رُحماك ربي.

علي: لا يأخُذنك يا حبيبتي اليأس، إن فرج الله إذا أطلّ، فإنه يغمر الإنسان بنعمه التي لا تُحصى، وسوف يُنسيك كل حُزن، ليكن صبرُك صبرًا جميلًا.

كانت كلماته تسقط على أوجاعها، لتذوب في عينيها، فلا دمعة تأتي إلا دمعة في دعاء، تُناجي بها الله، ليفتح لها نافذة، تطل منها للحياة، بأن تُرزق بمولودها.

عشر سنوات، كان يا ما كان فيها، من سعد، ومن وجع، في السنة العاشرة من زواجهما، اجتاح فيروس كورونا العالم، ليحصد من البشر ما حصد، ولم تكن فاطمة بعيدة عن الإصابة، ولكن إصابتها جاءت بعد مُراجعتها المشفى، لتعرف نتيجة التحليل الخاص بالحمل.

قاد علي السيارة، متوجهًا إلى المشفى، وكانت يده اليُمنى تشدّ على أصابع فاطمة، يدُس فيها طاقة إيجابية، مع ابتسامة خفيفة الظل، فيها شذرات غزلية، كأنه يُخاطبها بقوله: أحبُك، يا كل الجمال في حياتي، وأغنياته العبقات، لتبتسم فاطمة في خجل الأنثى، تُرفرف بأحمر الشفاه، تُعانق وجنتيها، كالشفق الأحمر، حين يبتسم في وجه السماء.

توقفت السيارة بجانب المشفى، توجهت فاطمة إلى العيادة، وذهب علي ليُوقف السيارة في المواقف المُخصصة لذلك.

استقبلتها الدكتورة هيفاء، التي تُتابع حالتها منذ سنوات، احتضنتها بكُل شوق، وصرخت: ألف مبروك فاطمة، حبيبتي أنتِ حامل، أخيرًا، تحقق الحُلم.

لم تُصدق فاطمة، تجمدت قدماها، أصابعها ترتجف ارتعاشًا، انتظرت سنوات، تُمني النفس بهذه البشارة، خرجت من حجرة الدكتور بعد أن شكرتها وعانقتها، لتُخبر زوجها، الذي سجد لله شُكرًا في بهو المشفى، وانسابت على وجنتيهما الدموع، دموع السعادة، وتحقيق الأمنيات.

انطلقت السيارة في أبهى حُلة من المشاعر، الفرحة لا يسعها الأفق، ولا تُترجمها الكلمات، توجه علي إلى المنزل، أدخل زوجته إلى حُجرتها، طلب منها عدم الحركة، وأن تهتم بنفسها من هذه اللحظة، واستأذن منها، ليخرج بعض وقت، ويعود، سمعت إغلاق باب الصالة، رفعت يديها ناحية السماء، وقالت: الحمد لله، اللهم تمم لنا بخير.

رجع علي، وقد أحضر معه باقة ورد، وفيها قطعة ذهب، وقدمها إلى زوجته هدية.

توردت وجنتاها، واحتضنها السرور، وقالت: كم أنت تُفاجئني دائمًا، أيُها الحنون، الله لا يحرمني منك، يا قرة العين، وروح شغاف القلب.

أشرقت ابتسامته التي تعشقُها، ومسح على أصابعها بدفء.

لم يُمهل “كوفيد 19” فرحة فاطمة بحملها، حيث أصيبت مع زوجها به، كانت أعراض فاطمة شديدة، وعلي لم تكُن الأعراض لديه شديدة، انتابه الخوف على صحة فاطمة، لأنها في الأساس تُعاني من ضيق في التنفس، مرّ يوم بعد يوم، وعلي يقوم بخدمة زوجته، إلا أنه وجدها ذات صباح، ملقاة على الأرض، وقد فارقت روحها الحياة.

لم أستطع أن أحرك قدميَّ، لأعطي الطفلة الكُرة، لأني أجلس على كرسي مُتحرك، فقد أصبحت بعد موت فاطمة مشلولًا، تقدمت الطفلة باتجاهي أكثر، وخاطبتني:
عمو، لماذا لا تُعطيني الكرة؟

أجبتها: عمو، أنا مريض في قدميَّ، ولا أستطيع أن أقدمها لك، ليتني أستطيع أن أعطيك إياها، وأقبلك، وبكى.

وضعت الطفلة خدها على رُكبتيه، وبكت: عمو، لا تبكِ، إني أحبُك، أنت حنون جدًا، وطيب القلب.

أخذت الطفلة الكُرة من بين قدميه، ورفعت يديها وابتسامتها تبزغ كألوان قوس قُزح، وهو لا يزال يتأملها بشوق، كأنه يرى فيها ابتسامة زوجته، وطفله، الذي أخذه الغياب، وهو لم يكتمل.

يا أيتُها الطفلة، ها أنتِ تبعثين في قلبي الحياة، بعد كُلّ هذا الحُزن والفراق، سأبدأ مُجددًا بالتسلح بالأمل، لأشق الطريق إلى شاطئ الأمنيات، يا زوجتي، لن نلتقي، ولكن أعدك أن أكون معك، وأنتِ معي، حتمًا ستُشرق الحياة.



error: المحتوي محمي