الضفة الأخرى

قضى مُحسن طفُولته كأي طفل تلهو البراءة في عينيه، ويُناغيها بظله.

كان والداه، يُغدقان عليه بتوفير كل أساليب الترفيه، كالألعاب، إنه الابن الوحيد بين أخواته الأربع، آخر العنقود المُدلل، ومع مرور الأيام، وتحديدًا في فترة المُراهقة، لم يكن يجلس في المنزل إلا قليلًا، دائمًا، يتسكع في الطُرقات، مع رفاقه، والده مشغُول في عمله، لا يحط رحاله إلا قُبيل المغرب، ووالدته مشغولة بتنظيف وترتيب المنزل، همها الاهتمام بأسرتها بقدر ما تمتلكُه من وعي وثقافة، تربت عليها.

نشأ مُحسن في هذه الأسرة، التي ارتبط فيها الأبوان من خلال زواج تقليدي جعل والده، يرتبط بوالدته لأنها ابنة عمه، فلم يكن التوافق الثقافي يأخذ الاهتمام الكبير في هذه النوعية من الزواجات، مما أوجد بينهما عدم انسجام في تربية الأبناء، نظرًا لعدم وجود توافق فكري بين الزوجين، والذي شكّل خللًا في مسيرة الاهتمام المُشترك، ليكون ناقصًا، مع مُرور الأيام.

ومع انشغال والده في عمله في نهار يومه، وجلوسه في الديوانية ليلًا مع أصدقائه إلى وقت مُتأخر، قامت والدته، التي لم تُكمل تعليمها بمُتابعته وأخواته في الدراسة، لهذا كان يُوهمُها بالمُذاكرة من خلال تحديقه في الكُتب، لتطمئن هي، ظنًا منها أنه، يُذاكر ويقوم بكتابة ما عليه من واجبات.

وفي المرحلة المُتوسطة، تعرّف مُحسن على مجموعة من الأصدقاء، فأصبح يقضي جُلَّ وقته معهم، يقتطعون المسافات لهواً بدراجاتهم الهوائية -السيكل-، ويُمارسون لعبة كرة القدم في الحارة، وإذا كان في المنزل، لا تُفارق عينيه الألعاب الإلكترونية، مما سبب له ضعفًا في عينيه، ونتج عن ذلك تعثره بالصف الثاني المُتوسط، ليُعيد السنة، وهذا التعثر لم يُبادر والده إلى مُعاقبته عليه بأي لون من ألوان المُعاقبة، سوى ثورة غضب، فانهال عليه توبيخًا وشتمًا، أما والدته، فكانت تشبعه ضربًا؛ بين الفينة والأخرى.

إن الإهمال الذي اعتراه جعل الكثير من الأقرباء، يصفُونه بالفاشل دراسيًا، ولا فائدة تُرجى منه، مع أنه يتمتع بالذكاء، وقوة الحفظ.

حين كان في الصف الثالث الثانوي، توطدت علاقة مُحسن بأحد زملائه بشكل كبير جدًا، وهو زميله مُحمد، الذي كان مُتفوقًا في دراسته، وجميع المُعلمين يُشيدون به، مع كونه من أسرة فقيرة، في حين أن مُحسن يعيش في أسرة وضعها المادي فوق المُتوسط، وكان يرى في زميله القدوة، ودائمًا يُحدق فيه مُعجبًا، كلما أبصره يُشارك في الحصة، أو على مسرح المدرسة مُكرّمًا.

لاحظ الأبوان تغير سلوك مُحسن، حيث أصبح قليل الخُروج من المنزل، فانتابهما شيء من التوجُس، خصوصًا أنه في فترة تكوّن شخصيته، فوالده مُثقف، يهتم كثيرًا بالأدب، لكنه لا يُظهر هذه الثقافة في المنزل، ولا يُشارك أسرته بها، لكون زوجته لا تهتم بالأمور الثقافية والأدبية، فاعتاد على الطلاق الثقافي.

لم يقتصر لقاء مُحسن بزميله مُحمد في المدرسة فقط، فقد اتفقا على الزيارة بين الفينة والأخرى، وأيضًا اتفقا على التواصل من خلال قنوات التواصل الاجتماعي، فقد شعر مُحسن بأنه لا استغناء له عن صديقه، الذي كان بلسمًا، يُحيل كل شيء في ذاته إلى جمالية، تتفتح لها زهور الربيع، ليرشف من عذب لونها ما يكسوه عذوبة.

لا يخلو اللقاء بينهما من سرد محمد بعض القصص، التي يُصغي لها مُحسن بكل كيانه، لما يتمتع به مُحمد من أسلوب جذاب نظير ما قرأه من كتب أدبية وثقافية، ولأنه مغرم حد الإغراء الشهي بقراءة الروايات الأدبية، وله تجارب كتابية بسيطة جدًا، يبُث من خلالها احتياجاته، كفتى يحلم بمستقبل مُزهر، ليُساعد والدته على الأمُور المعيشية، بعد فقد والده قبل ثلاثة أعوام إثر نوبة قلبية ألمّت به فجأة؟ وأيضًا حُضوره الفعاليات المعنية بكل ما من شأنه، أن يرتقي بعقلية الإنسان، وتطوير أدواته ومواهبُه.

تفوق مُحسن في دراسته، وتخرج في المرحلة الثانوية بتقدير ممتاز، وذهب مُسرعًا ليُبشر والديه، فهي المرة الأولى، التي يكون فيها الأول على فصله، هذه المُفاجأة غير مُتوقعة، أدخلت السرور على والديه، فأهداه والده هاتفًا نقالًا، وأهدته والدته القرآن الكريم، وهمست في أذنيه، ونبضات قلبها تحتضنُه: لا تترك تلاوته، فإنه النور، الذي يُضيء لك كل شيء، يُضيء الحياة، ليكُن رفيقك.

جلس الصديقان في المقهى، يرتشفان القهوة الفرنسية، وكان الحديث عن المُستقبل، وما هي الجامعة، التي ستكون وجهتهما، وفي كل الحوار، جاء في سقف أولوياتهما، أن تحتضنهما ذات الجامعة، ليكون الظلُّ في واحة، فلا فراق، ولكن لم تأت الرياح بما تشتهي السفن، فلم يكن ذلك لهما، حيث التحق مُحسن بجامعة الملك فيصل بمحافظة الأحساء، والتحق مُحمد بجامعة الملك سعود بالعاصمة الرياض.

التحق مُحمد بالجامعة، مُتخصصًا في كلية التربية، ليبتعد عن صديقه مُحسن، الذي تخصص في كلية الإدارة، ومرَّت الأيام، والشُهور، لتُعانق السنوات، حتى أصبح الصديقان، يلتقيان في الإجازة الأسبُوعية، وكعادتهما، يقضُيان الوقت في النقاش، الذي يتخلله الإصغاء لبعض النصوص لكليهما أمام رفاقهما، لتترنم الأنفس بقصيد مُحمد، الذي يُتقن الأبجدية الغزلية على خُطى نزار قباني، يُداعب بها أنثاه، التي رسمها في ذهنه، لتكون زوجة المُستقبل، يُدغدغ وجع التُراب في خلخالها، لتُراقص الكلمات في توهج أحرف القلب، في حين تبزغ أحرف مُحسن بسرد قصة، نسجها، كغيمة زرقاء، تهطل مطرًا على جبينهم، وفي جعبتها الكثير، لتُقدمه.

وبعد تخرجهما، كل من جامعته، توظف مُحمد في شركة مرموقة، وتحسنت ظروف أسرته المادية، واشترى منزلًا جديدًا، ليضمهم تحت زواياه. ليُعلن القدر عن مرحلة جديدة، تخلصا فيها من إيجار الشقة، الذي أتعبهم، وقض مضاجعه كل عام، تنفست والدته الصعداء، احتضنت ابنها بحنان، قبلته مرارًا، وخاطبته: محمد يا قُرة العين، وبلسم الفُؤاد، تحملت الأسى، واحتضنت الجراحات، لتُسعدنا، رفعت طرفها بعيدًا، وأغمضت عينيها، ونادت بصوت أضناه الاشتياق واللهفة: يا أبا مُحمد، نم قرير العين، فابنُك البار، لم يترُكنا، لتقسُو علينا الحياة أكثر مما كان، الحمد لله يا ولدي على لطفه ورحمته، ربي يحفظُك، ويجعل دربك أخضر، ويُبعد عنك كل سُوء، يا نُور عينيَّ.

تسللت دمعة من خديه، وانحنى على جبين أمه، يُقبلها: أنت الخير والبركة، يا أماه..، وعانقها بلا كلمات، سوى نبضاتهما، تغزل بعضها بعضًا، كحديث العُشاق.

بعد الإجازة، التي أخذها مُحمد من شركته، ليُعد الترتيبات لانتقالهم إلى منزلهم الجديد، قاد سيارته في صباح الأحد، متوجهًا إلى عمله، فتعرض إلى حادث سير، تُوفي على إثره، وفارقت روحه الحياة، حيث لم تستطع جُهود الأطباء إنقاذه بسبب النزيف الداخلي، مُخلفًا وراءه والدته، التي كواها الأسى بعد رحيله، وأخواته، اللاتي وجدن فيه الأب الحنُون، ليُجدد في ذاكرته، التي لم تترهل رحيل والده، بعد عشر سنوات من مُواراته الثَّرى، لتبكي دموعًا، تُحرق شغاف قلبها.

كان مُحسن سعيدًا، وخُطواته تُعانق دار النشر، التي ستقوم بطباعة ونشر إصداره الأول، وعندما طرق باب حجرة مُدير الدار، كان له مُوعدًا مع القدر، الذي لم يمهله، ليُفرح قلب صديقه، الذي ينتظر بزوغ ضوء إصداره الأول.

صوت هاتفه النقال، يُخبره أن مُحمدًا، يُريد أن يطمئن عليه، وماذا عمل في دار النشر، ولكن لم يكن المُتصل مُحمد، وكانت الصدمة، والدمعة.

تلقى مُحسن نبأ رحيل توأم دربه، وريحانة قلبه، المُوجه الأول له، الذي فتح لعينيه وقلبه نافذة الضوء، ليبدأ تحقيق طموحه، وهو في دار النشر، يُوقع عقد إصداره الأول، الذي يحتضن خمسين قصة قصيرة، عندما هاتفته أم محمد، رأى رقمها على شاشة هاتفه النقال، فابتسم، ولكن أحس بقلبه، ينقبض، أجابها: أمي.

أم مُحمد: ولدي مُحسن، مُحمد راح، راح مُحمد.

مُحسن: أمي لا، ماذا حدث؟!

أم محمد: مات مُحمد، مات قلبي، تركنا، وراح.

تجمدت مفاصله، توقفت عقارب الساعة، نبضاته، تتسارع اضطرابًا، دموعه، تجري على خديه، وفي كل دمعة صورة مُحمد هنا، وفي دمعة أخرى، كلمة مُحمد.

سقط على الأرض مغشيًا عليه، طلب صاحب دار النشر سيارة الإسعاف، وتم نقله إلى المشفى.

استيقظ بعد وقت، وجد والديه بقُربه، وفي الجهة اليُمنى، كانت أم مُحمد، لم يتحدث معهم، فقط أدار طرفه في أعينهم، مُتأملًا الفقد في ملامحهم.

وقبل خُروجه من المشفى، كتب قصته، مع مُحمد، وأضافها في إصداره، وجعلها القصة الأولى منه، عنوانُها “ومات صديقي”، وطلب من صاحب دار النشر الانتظار قبل رفع الإصدار للطباعة، ليُغير الإهداء، وكتب في الإهداء الجديد:

إلى رفيق الوجع والأمل، إلى الذين قرأنا لغتهُم، وتنفسنا أرواحهُم، وهم بيننا، وهم في الغياب، احتضنهم التُراب، لتحتضنهُم قُلوبنا، أهدي هذا الإصدار، إلى صديقي، الذي مات منذ دقائق في الدُّنيا جسدًا، ولكنه في قلبي لم يمُت روحًا وفكرًا..، إلى مُحمد الإنسان، إلى نظراته العميقة الغور، إلى لمساته الإنسانية، إلى حُلمي، الذي وجدتُه في قلبه، فأضاء لي الطريق، نم قرير العين، يا نبضيَّ، الذي لن ينساك، وإن توقف النَّبض، لأني سأعانقُك في عالمك، كُن مطمئنًا أن الذي يُقدم للآخرين الخير، ويخلُّق البسمة على شفاههم، يقضي عوزهم، ويأخُذ بأيديهم إلى الضّفة الأخرى من النَّهر، حيث العُشب لا يحذُوه الفناء.



error: المحتوي محمي