عندما لاحت عمامة الشيخ عكرمة صبري مفتي القدس والديار الفلسطينية، بين ضيوف الجنادرية، اندفعت للسلام عليه، محاولاً استنشاق رائحة بيت المقدس العبقة.. استقبلني هاشاً باشاً.. وما أن جلست إليه، متتبعاً تلك الرائحة، حتى قال لي: إنها عبقة بروائح الآباء والأجداد، زكية بما خلفوا من مآثر، لكنها اليوم ملطخة بدم الشهداء.
وراح يسرد لي تاريخ “عروبة القدس” الذي يرجعه إلى ما قبل سبعة آلاف وخمسمائة عام.. تماماً كما يرجعه أديب القدس ومؤرخه الدكتور إسحاق موسى الحسيني في كتاب له بنفس العنوان، صغير الحجم، كبير الموضوع، لكنه وفير المعلومات؛ حيث يُرجِّع الوجود العربي سابقاً على الدعاوى اليهودية القديمة، والدعاية الإسرائيلية المعاصرة، إلى العهد اليبوسي الكنعاني، قبل حلول العبرانيين قبائل وجماعات ، جاءت من وراء التاريخ، من بحر الخزر!
وفي لقطات ذكية يذكر الحسيني أن أنبياء إسرائيل، لم يتملكوا أرضاً أو عقاراً في فلسطين، وإنما كانوا يستأجرونها من سكانها العرب الأصليين، رغم أن بعضهم كان قد عرض عليهم هذه الأراضي أو ذلك العقار كهبات.
وقد اتخذت القدس اسمها، هذا بعد مسرى نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، بعدما تسمّت بايلياء، الاسم الروماني المذكور في العهدة العمرية.. أما الاسم القديم فهو أورسالم، وهو اسم عربي قديم، إلا أن اليهود حاولوا منذ قديم الزمان “عبرنته” فحوَّلوه إلى أورشاليم، كما جاء في كتبهم المحرّفة.
هذا واستمرت القدس مدينة عربية على امتداد الأزمان، تستقبل القبائل العربية من جزيرة العرب، وقام عبدالملك بن مروان وابنه الوليد بعمارة المسجد الأقصى، ليستمر العرب في تمدينها وإضفاء طابعهم الحضاري الإسلامي، في مساجدها وبيوتها وطرقها، وحينما اخترقت جحافل الصليبيين أسوار المدينة المقدسة، لم يستطيعوا أن يضيفوا إليها شيئاً جديداً، ذلك أن الأوروبيين هم من أفاد من فوائض الحضارة العربية الإسلامية، التي علمتهم فنوناً جديدة في العمارة والآداب، والمدنية والعمران، كما يؤكد ذلك المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الشهير “حضارة العرب”.
إذن.. من أين جاءت دعاوى اليهود في هذه المدينة المقدسة؟
صحيح أنها مدينة مفتوحة على الآفاق السماوية، بأديانها الإبراهيمية التي تفرعت إلى الموسوية والمسيحية والإسلامية.. غير أن هذا لا يسلِّم بتاريخية الوجود اليهودي، من خلال بناء هيكلهم الذي هدمه الرومان، إلا إذا سلمنا بأن وجود آثار رومانية، يؤدي إلى دعاوى روما الحالية في أرض فلسطين، كما أن امتداد فارس الغازية لليمن، بأنها أرض فارسية!!
المؤلم في الأمر هنا.. أن مثل هذه الدعاوى المزيفة، تنطلي على مجتمعات الإعلام والسياسة، في الغرب، وخاصة أمريكا التي وافقت على بناء سفارتها في القدس، على أرض وقفية لعائلات فلسطينية معروفة، كما أوضح ذلك المؤرخ المرموق الدكتور وليد الخالدي، الأستاذ الفلسطيني في عدد من الجامعات الأمريكية والأوروبية.. ومع كل مرافعاته الأكاديمية الدقيقة، إلا أن المتواطئين مع المؤامرة الصهيونية على فلسطين برمتها لا القدس وحدها، سائرون في إشباع المطامع الإسرائيلية بتهويد المدينة المقدسة، التي تزمع حكومة شارون هذه الأيام الحرجة، بفتح أبواب مسجدها الأقصى، لليهود والسياح الأجانب، الذين كانوا حتى وقت قريب، ممنوعين من دخول باحة الأقصى، كما أخبرني مفتي القدس، متلوعاً حزيناً، وهو يرسم أمامي أفقاً أسود لثالث الحرمين الشريفين، متى ما استمر تقاعس العرب والمسلمين، على منوالهم الاستسلامي الراهن.