عبدالخالق الغانم.. أيقونة الفن السعودي

توالت الأخبار عصر الثلاثاء نبأ رحيل المخرج المتميز عبدالخالق الغانم، واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي في نقل الخبر على امتداد الوطن، خبر آلم الجميع وأكثروا من الترحم عليه واستذكار منجزاته الفنية.

بالفعل خبر صادم ومفاجئ، فمنذ قرابة شهر تقريبًا عرف الجميع بحالته المرضية الصعبة وتعاطفوا كثيرًا مع صورته التي هزت المشاعر وهو جالس على كرسي متحرك وملامح وجهه تغني عن أي كلام.

كل دعا له بالشفاء، وسرت حالة من الاستبشار بعد أن طمأن عضو مجلس الشورى السابق الأديب محمد رضا نصر الجمهور باللفتة الوطنية الكريمة بإرسال عبدالخالق الغانم للعلاج خارج المملكة، ولكن إجراءات السفر ربما أخرت الرحلة بسبب الأوضاع الوبائية المتجددة على مستوى العالم، وطوال هذه الفترة كان يتقلب بين الأوجاع والآلام على السرير الأبيض في مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام، وعصر هذا اليوم لم يمهله المرض الخبيث زمنًا آخر، وقطع أوصال الأمل المعقودة سفرًا لتلقي العلاج خارج الوطن، انتهت إجازة العيد، وسلمت الروح لبارئها.

انتهت رحلة فنان حافلة بالعطاء، ومسيرة متميزة ومختلفة عن كل المخرجين السعوديين الآخرين، حيث الموهبة المتّقدة منذ الصغر والدراسة الأكاديمية في معهد الفنون الجميلة ببغداد، والتتلمذ على يد أساتذة كبار من أمثال “بدري حسون فريد” أحد رواد الفن العراقي، عنصران أساسيان ارتقى بهما الغانم في بناء معمارية منجزة الفني المتنوع بشكل ممنهج وإدراك معرفي حسب القواعد الدرامية المتبعة، ممزوجة بحسه وذائقته المكتسبة لكل ما يمت لعالم الإخراج التلفزيوني، فجاء للفن مثلما يقال على أصوله، خابرًا اللعبة الدرامية بجميع أبعادها، وحين تولى زمام الإخراج للأعمال الفنية المحلية كان شغوفًا بالتجديد، وأحدث نقلة نوعية على مستوى الدراما السعودية.

لقد برز اسم عبدالخالق الغانم على طول مساحة الوطن، خصوصًا بعد توليه إخراج المسلسل المعروف “طاش ما طاش”، وعن هذا المسلسل تحديدًا غضب عبدالخالق الغانم من كاتب السطور حين وجّه له نقدًا صريحًا متمثلًا في أصل العمل بأنه منهوب اسمًا وفكرة من دولة البحرين وبالأدلة والتواريخ والقرائن.

تفهّم وجهة النظر فيما بعد ولكن على مضض وقد وضحت له المسألة، وجهًا لوجه، قائلًا له: يا أبا وفي، ليس لك علاقة في نسبية العمل لا من بعيد ولا من قريب، أنت أتيت للعمل وشبه معروف سلفًا، من سبقك في إخراج المسلسل عامر الحمود تدور عليه علامات الاستفهام، وربما القصبي أو السدحان هذان الثنائيان المتميزان ربما لطشا فكرة واسم العمل الأصلي البحريني وجيروه لأنفسهم، وأي كلام حول هذا الموضوع حاليًا وانتسابه لأصله لا يفيد طالما أصحاب الشأن (أعضاء مسرح الجزيرة البحريني) صامتون، هنا ضاع أصل الحقيقة.

لكن الحقيقة أن مسلسل “طاش ما طاش” خرج من عباءة الإخراج التقليدية عند مخرجه السابق، إلى مخرجه الأشهر (الغانم) الذي أخرجه من حالة الرتابة المملة إلى فضاء الحركة والأكشن، وتمكن من تقديم حلقات مغايرة عن السائد والمألوف، ثمة مشاهد طرحت جرعات جريئة لم يعتدها المواطن السعودي، حلقات لامست همومه وقضاياه وضربت في العمق، اعتبر مسلسل “طاش ما طاش” الرمضاني هو العمل الدرامي السعودي الوحيد الذي اقترب من الخطوط الحمراء، وتحدث جزئيًا عن المسكوت عنه وبعض الحلقات أحدثت جدلًا واسعًا.

التحدث عن مسيرة الفنان عبدالخالق الغانم الفنية مليئة بالشجن والمعاناة والحلم، وقد أفرغ كل ما اكتسبه من فكر وفن وموهبة أصيلة وحس مرهف في أعماله الدرامية المتنوعة.

كثيرة هي المسلسلات التي أخرجها، ومدونة في كثير من المواقع، وعند ذكر منجزاته الفنية المرافقة لخبر نعيه، دائمًا يشير التاريخ 1992 لبداية أول عمل فني قام بإخراجه وهو تمثيلية بعنوان “رحلة صيد” – الذي تم تصويره على قارب خال كاتب السطور “حسين هبوب”، ومسرح الحدث جزء منه في بحر دارين، من بطولة الممثل القدير عبدالمحسن النمر، لكن الحقيقة الغائبة أن الغانم أخرج عملًا فنيًا مسرحيًا قبل هذا التاريخ بـ4 سنوات، وتحديدًا في جمعية الثقافة والفنون بالدمام. والحكاية أن كاتب السطور شاهد عيان على ما سوف يدلي به.

أتى عبدالخالق الغانم من العراق تقريبًا بين عامي 1986 و1987، في ظل اشتداد أوار حرائق الحرب العراقية الإيرانية، التي لم تبقِ ولا تذر، أتى إلى موطن والده والعشيرة لأن الأجواء في أرض السواد عسيرة والعيش فيها لا يطاق.

أتى عبدالخالق عند منتصف الثمانينات حاملًا الأمل والحلم في بث رؤياه الفنية فوجد أجواء القطيف خاوية؛ لأن المسرح القطيفي في هذا الوقت تحديدًا أصبح من إرث الماضي، حيث كانت الأندية تعج بالتمثيل والغناء والموسيقى في السبعينات الميلادية.

يمم وجهه صوب جمعية الثقافة والفنون بالدمام، وتقرب من أجواء الفنانين الهواة وتعرف عليهم، وشيئًا فشيئًا أسند له إخراج عمل مسرحي بعنوان “الكرة المضيئة” من تأليف الممثلة الكويتية أسمهان توفيق، وهو عمل درامي رائع ولكن لم يكتب له النجاح، فقد قُبر في مهده، وكان من المؤمل أن يعرض العمل المسرحي في الدمام ويأخذ مداه جماهيريًا في المنطقة، وعلى وقع البروفات التي جرت على مسرح الثانوية الصناعية بالدمام حيث الجمعية لم يكن لديها مسرح، وعند البروفة الأخيرة، جاء خبر عاجل للجمعية بأن يعرض العمل في الجنادرية، وإدارة المهرجان هي من طلبت عرض المسرحية ضمن أنشطتها الليلية، وكان من المقرر حسب الإعلانات الموزعة تقديم أكثر من عرض، وبالفعل تم العرض الأول، وسط حضور جماهيري غفير، وتفاعل الحضور مع فكرة المسرحية، التي تشير إلى قرية محرومة من الماء وثمة رجل أهوج يتحكم في مسار تدفق الماء، وهنا بطل المسرحية عبدالمحسن النمر لكي يحصل على الظفر بالزواج بالفتاة الحسناء، طلب منه والداها شرطًا أن يغامر بحياته لجلب الماء لأهل القرية المحرومين من الماء، أنينهم دفعه لمحاربة الشرير والتخلص من ظلمه ويأخذ في نفس الوقت الكرة المضيئة من تحت يديه، وانتهت المسرحية بعد أن لعب الراوي عبدالعزيز إسماعيل في سرد الحكاية التي تخللت فصولها وكذا الوصلات الغنائية التي سايرت وقائع مشاهدها المتعددة.

هذه المسرحية المتميزة تم تأويلها بإسقاطات في غير محلها، وحملت فوق طاقتها، وكان مصيرها المنع نهائيًا، منعت بعد عرضها الأول الذي يصادف عام 1988 ولحد الآن، ثمة تسجيل لها بكاميرا الفيديو أثناء إحدى البروفات احتمال في حوزة الجمعية، مسرحية مليئة بالنجوم؛ جعفر الغريب، وسمير الناصر، وعلي السبع، وسلمان زبيل، وكاتب السطور شاهد أكثر بروفاتها في الدمام وكذا عرضها اليتيم في الجنادرية.

يعتبر هذ أول عمل فني يقوم به المخرج عبدالخالق الغانم وليس عام 1992 كما هو مدون في سيرته الفنية. طبعًا تسبب منع هذا العمل في ردة فعل طاقم المسرحية وترك ألمًا عند المخرج عبدالخالق الغانم، الذي ظن أن مجالات الفن مخنوقة تعبيريًا، لكنه تجاوز كل تلك المخاوف بعد رحلة كفاح عصيبة في إخراج أعمال تركت بصمة في خارطة الأعمال الدرامية السعودية.

عبدالخالق الغانم اسم لا ينسى حفر اسمه بحروف من ذهب بتقديم أعمال تعد علامة فارقة في مسار الدراما المحلية واكتسب شهرة خليجيًا وعربيًا، هو بحق أيقونة من أيقونات الفن السعودي. الغانم أباح لي ذات يوم بأن تمثيلية الطيور التي أخرجها عام 2000 تتقاطع مع بعض سيرته الشخصية حينما كان يافعًا يتطلع لرسم الأحلام.

كم من أحلام طبّقها عبدالخالق الغانم على أعماله الدرامية، هي كثيرة وكان لديه أحلام أخرى، المرض أبعده عن عشق الفن لمدة خمس سنوات
وعصر يوم الثلاثاء، الموت قبر أحلامه المؤجلة للأبد.

وداعًا يا أبا وفي، وداعًا أيها الرزين، وداعًا أيها المبدع، وداعًا أيها المثقّف، وداعًا يا من جعلت الفن فكرًا وليس ترفًا. رحلت يا راسم الابتسامة وفي العين دمع حزن بمساحة وطن. حسرات الرحيل مرة، سلام على روحك المبدعة يا عبدالخالق الغانم.. المبدعون لا يرحلون.



error: المحتوي محمي