جُملةٌ كثيرًا ما نسمعها ويرددها الآباء والأمهات والمربون أمام تصرفات الأبناء الغريبة، وأمام سلوكياتهم المُحيّرة وأفكارهم الغامضة وتوجهاتهم غير المفهومة· ألا وهي “جيل آخر زمن”!
حيث باتت الأسرة في وادٍ والقيم الأخلاقية والتربوية في وادٍ آخر، والأبناء في وادٍ ثالث لا ينتمي عادة لا لهذا ولا لذاك· فالأسرة تحاول في عصرنا هذا، عصر الزمن المفتوح والعولمة الكونية التمسك – ما أمكن – بمقومات التنشئة الاجتماعية الصحيحة ومفرداتها المستمدة من أصالة القيم الدينية السامية التي شهدها الآباء والأجداد لتفاصيل الحياة اليومية ساعيةً لغرسها في نفوس الأبناء، إلا أنها سرعان ما تصطدم مساعيها الحثيثة بالسيل الجارف للثقافة الغربية الوافدة من كل حدب وصوب! وفي كل اتجاه يقف الآباء والأمهات ومؤسسات المجتمع التعليمية منها والتربوية عاجزين مكتوفي الأيدي غير قادرين على مواجهة الواقع الجديد بمفرداته ومتغيراته السريعة والمتلاحقة والمؤثرة على الجيل الجديد من الأبناء.
في السابق كانت الأسرة الوعاء الوحيد الذي يحتضن النشء، والمرجعية الوحيدة لكل ما يتسلل إلى ذاته من فكر وقيم وثقافة، وكل ما يكتسبه من خبرات ومعارف إلى جانب المتاح للتنشئة المجتمعية الأخرى المحصورة في نطاق ضيق منها: المدرسة والنادي والمسجد. إلى أن هبّت عواصف التغيير؛ لتنسف الحواجز وتطيح بالموانع ويختلط الحابل بالنابل! وأمام هذه الحالة بات الجيل الجديد يتخبط بين سندان القيم الإسلامية والعادات والتقاليد والموروثات الثقافية الأصيلة والمتمثلة في الأسرة والمجتمع وبين مطرقة العولمة والثقافة الغريبة الوافدة بكل قوتها ومغرياتها ومفاسدها المقيتة! ففقد ذلك الشاب اليافع توازنه وتماسكه وظل يترنح مكانه كما اختل صوابه وطريقه المستقيم.
فهل أصبحت الأسرة التقليدية غائبة أو مهمشة؟! ولماذا أضحت عاجزة أمام رياح التغيير وبات تأثيرها محدودًا ودورها مفقودًا؟! هل لا تزال الأسرة قادرة على أن تسترد دورها الطبيعي في عملية التنشئة السليمة كمرجعية دينية أخلاقية وفكرية؟ أم أنها هي الأخرى ذهبت ضحيةً لتلك المتغيرات، وباتت أداة سلبية من أدوات التهميش واللامبالاة؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فما السبيل إذن إلى استعادة الأسرة مكانتها ووظيفتها؟! تساؤلات عدة تبحث عن إجابة.
وتشير كثير من الدراسات الحديثة إلى أن النشء الحالي في معظم بلدان العالمَين العربي والإسلامي -على وجه التحديد- يستقي أكثر معارفه وتحصيله المعلوماتي من وسائل الإعلام، وفي مقدمتها التلفاز، ووسائل التواصل الاجتماعي. وأن أبناء المنطقة العربية هم المستهدفون في المقام الأول من البث الفضائي المباشر للمحطات الموجهة التي تستخدم أشكالاً وأساليب مختلفة تبُث من خلالها كثيرًا من سمومها المنحدر الذي يفتك بعقول شبابنا ذكورًا وإناثًا· كما تشير كثير من الدراسات أيضًا إلى أن الشبكة العنكبوتية والفضائيات تمثل (الخطر الحقيقي) الذي يهدد معتقدات جيلنا الصاعد، وأنها أصبحت داءً مستشريًا بعمق وحقيقة ماثلة للعيان تفرض نفسها وتؤكد خطورتها على النشء يومًا بعد يوم، بل على جميع أفراد المجتمع بكل فئاته·
وقد كانت الأسرة في المجتمعات العربية في سنوات ما قبل الغزو الفضائي والثورة التكنولوجية المصدر الأول الذي يتزود منه الأبناء قيمهم ومعارفهم وثقافاتهم، حتى بعد أن ينهي الطالب المرحلة الجامعية. وكانت صلته بالثقافات الأخرى صلة محدودة للغاية ومن ثم كان تأثير الأسرة قويًا وملموسًا ومؤثرًا. لذا كانت مرجعية الأبناء فيما يواجهونه من خبرات حياتية هي (الأسرة) بجانب المؤسسات التعليمية التي تُكمل هذا الدور، ولم يكن هناك تعارض أو صراع أو تيارات فكرية مناهضة غريبة ومن ثم لم تنتشر الظواهر السلبية التي نراها اليوم. فقد تغيرت الصورة تمامًا، وأصبح الأبناء ينتمون إلى عالم آخر وثقافات أخرى غير معروفة حتى لدى الأُسر. وذلك بفعل التداخل والتمازج والفوضى الفكرية العارمة من الغزو الوافد، والذي اقتحم عقولنا وفي عقر دارنا دون سابق إنذار! وألغى خصوصيتنا وبات يهدد هويتنا وانتماءنا الفكري والقيمي بشكل غير محمود؛ ومن ثم نجد الأبناء ينساقون وراء هذه التيارات دون تدبر. فالعالم من حولهم يفرض عليهم هذه الحتمية. وبحكم طبيعة أعمارهم كمراهقين وشباب؛ فإنهم سرعان ما ينصهرون دون وازعٍ أو مانعٍ يتناسب وتعاليم ديننا المقدس، بل ويتخذون من شخصيات خاوية -مع شديد الأسف- نماذج وقدوة لهم دون وعي أو إدراك.
كما أن (الإنترنت) وكما تشير الأبحاث أصاب عملية التنشئة بضَعف التواصل والعلاقات الأسرية، خاصة بين الأطفال وأولياء أمورهم، وأن تلك التقنية أثرت على الأطفال وحوّلتهم من نشطاء مندفعين إيجابيين إلى أطفال أكثر حذرًا وسلبية، بل وعدوانية. ويغلب عليهم الانطوائية، لا يريدون التقدم واكتشاف المجهول. حتى أصبحت هذه التقنية تشكل مدرسة موازية في ظل المعارف والثقافات الهامشية فيما تقدمه من برامج ليست هادفة تؤدي إلى تعطيل النمط الطبيعي لجيلنا الجديد؛ ونتاج ذلك تفتحت مداركه مبكرًا على مشكلات منتشرة، كالانحلال والتفسخ الأخلاقي والانفلات المُنافي للعقلانية والفطرة البشرية السوية. فقبل وقت قصير كانت الدنيا تقوم ولا تقعد لمجرد سماح الرقيب بالتليفزيونات العربية بمشهد غير لائق أو لقطة خارجة عن الذوق العام، أما الآن فالباب أصبح مفتوحًا على مصراعيه، وهبّت رياح العولمة من كل جانب، ولم تَعد الأسرة قادرة على ضبط مصادر المعرفة للأبناء، وأصبح في كل منزل جهاز فضائي وإنترنت، وفي حوزة كل طفل جوال حتى وصل الحال إلى أن التواصل بين أفراد العائلة الصغيرة بات في حكم المعدوم. بل نرى بعضهم يتواصل من خلال (الواتس آب) وهم في المنزل الصغير! فالأب منهمك في رسائله، والأم ليست بأفضل حالٍ من زوجها، كذلك الأولاد كلٌ مع نفسه متخذًا من تلك المواقع عالمًا خاصًا به. وأصبحت الأمية أمية الإلمام بجهاز الحاسوب ووقوف الوالدان عاجزين عن كبح جماح هذا النوع من التقدم التكنولوجي؛ فأصبح الأمر خارجًا عن السيطرة تمامًا.
أما عن تقليل الآثارالسلبية للغزو الفكري لمجتمعاتنا العربية فإنه -في رأيي- يكون بالعمل في اتجاهين: الأول يتمثل في تحصين وتمكين هذا الجيل منذ الصغر بالقيم والأخلاقيات الإسلامية الصحيحة من قِبل الأسرة والمدرسة، والاتجاه الثاني هو العمل على الحد من تعرض هذا الجيل أو اطلاعه على مثل هذه التيارات المؤدية لمفاسد جمّة. وقد تصل بالأبناء إلى ما لا يُحمد عقباه!
وفي نفس الوقت علينا بتحصين معارف الأبناء بالشكل الصحيح وتوعيتهم بمثل هذه الثقافات الغربية الدخيلة على مجتمعاتنا ومخاطرها، من خلال تغيير المواقف والاتجاهات، وأن نحدد الخطوط الفاصلة بين الحلال والحرام، والمعقول واللامعقول. حتى لا يقع شبابنا وفتياتنا في تناقضٍ وتشتت وضياع. وهذا -لا شك- يتطلب وعيًا عاليًا للغاية، وجهدًا كبيرًا تتعاون فيه كل المؤسسات ذات الصلة بهذا الأمر. فالمسؤولية تقع على عاتق الجميع فهذا واجب يمليه علينا ضميرنا وأخلاقنا وقيمنا المستقاة من الشارع المقدس؛ لحماية صغارنا من تلك الملوثات والآفات التي وقعنا فيها -مع بالغ الأسف- لذا نسأل الله تعالى أن يحمينا ويقينا كل شر، كما نسأله جلت قدرته أن يحمي أبناءنا وبلادنا من كل سوء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.