خيبة أمل

قررت هذا اليوم كسر الجليد الذي يحيط حياتنا الزوجية، التي أصبحت باردة، متبلدة الإحساس والمشاعر، الدفء، والحيوية، كأنها قطعة من الجليد في شتاء قارس البرودة!

مضى على زواجنا سنوات، وهبنا الله خلالها ابنة واحدة، كانت المرآة التي نبصر بها الحياة، وبسبب غياب زوجي أحمد خارج البيت لفترات طويلة، كانت سارة كل اهتمامي، لتكون الجزء الأكبر في دنياي، وروحي، أحاول ترتيب أمور صغيرتي، وأعباء المنزل قبل رجوع أحمد من عمله، لأكون متفرغة له، أعطيه حقه من الوقت، وبسبب الفتور الذي صاحب حياتنا الزوجية، عزمت على تغييره إلى شموع، تذيب ترهلاتها، وتجعلها باسقة، نضرة الوجنتين، فهذه الليلة تصادف ذكرى زواجنا، سأقوم بإعداد أمسية احتفالية بهذه المُناسبة، وأرطب دقائق حياتنا، وأسكب على تبلدها العنفوان، وعلى قسماتها النضارة، وأول ما فكرت به، أن أفرغ لنا المكان، لنكون وحدنا، نستمتع بكل اللحظات، لأكون له وحده، بين ذراعيه وشفتيه، وهو لي وحدي، بين نبضات قلبي، ورموش عيني، ولو لليلة واحدة.

استأذنت أختي بأن تأخذ سارة هذه الليلة، لتلعب، وتنام مع أبناء خالتها.

أطفأت الأنوار، إلا لونًا خفيفًا منها، أشعلت شموعًا؛ لإعطاء المكان جواً رومانسيًا، وضعت على الطاولة من الأطعمة الفاخرة، الأصناف، التي يحبها أحمد، أن تكون على طاولة العشاء، لم أنسَ شراء الكعكة اللذيذة بألوانها، التي يعشقها، وأحضرت له هدية، ساعة من الجلد، مثلما يحب، اخترتها قصدًا دون غيرها من الهدايا، حتى عندما ينظر للوقت، يتذكرنا، فيأخذه الشوق إلى الرجوع لنا مبكرًا.

أنهيت إعداد المائدة، دخلت غرفتي، وأخذت حمامًا ساخنًا، ارتديت فستاني الأحمر، الذي طالما أمرني بلبسه؛ لأنه يحب هذا اللون، صففت شعري، وجعلته مسترسلًا على كتفي، وضعت بعضًا من مساحيق التجميل ذات ألوان هادئة على وجهي، وأحمر شفاه ناعمًا، نظرت إلى نفسي في المرآة معجبة، وقلت لنفسي: إنكِ رائعة الجمال، كسابق طراوة خديك، لم تغيرك السنوات، جلست أنتظر زوجي، لأفاجئه، وكلي شوق إليه، وملامحي ترتعش.

عند وصوله، استقبلته عند الباب بابتسامة عريضة، تنحني خلفها لهفة الشوق.

لاحظ التغيير على مظهري، فلم ينطق حرفًا واحدًا، ورد على ابتسامتي بابتسامة مصطنعة صفراء لا طعم لها، ولا لون، أيضًا، ولا رائحة، هذا ما شعرت به، وحدثني قلبي حينها، فانقبض.

قدمت له العذر، إنه متعب من العمل، وبعد أن يرتاح، سيتغير وضعه.

تقدم إلى الصالة، تحمله خطواته المُثقلات بما لا أعلم، لفتت أنظاره الطاولة المُعدة للعشاء، والشُموع تملأها، والهدية في زاوية الطاولة اليُمنى.

سأل عن هذا التغيير، عن سبب الاحتفال، أجبته: أخبرته بأن الليلة، ذكرى عيد زواجنا.

ابتسم ابتسامة أخرى، وكانت أفضل من سابقتها.

بدأ الفرح يتسلل إلى قلبي، نعم مثلما توقعت، إنه تعب العمل، إذًا سنحتفل بليلتنا بسعادة، وحتمًا، سيذوب بعض الجليد من مشاعره، التي اختزنها في صندوق، وأغلق عليها.

قال: إذًا يا منال، سآخذ حمامًا دافئًا، وأحضر للعشاء.

أجبته: أنا أنتظرك للعشاء، حبيبي.

تحسست وجنتي بأصابعي، في انتشاء اللحظة، التي أترقبُها.

مستفهمًا: أين حبيبتي سارة، هل هي نائمة؟!

أجبته: سارة، مع أبناء خالتها، وستنام هذه الليلة معهم، فهي تحب أن تلعب مع الأطفال في مثل عمرها.

غاضبًا، يرد: ماذا تقولين يا منال، ومن أمرك بذلك، وأين أنا من هذا الموضوع، لماذا لم تطلبي الإذن قبل أن تتصرفي هذا التصرف الأرعن؟

أكمل أحرفه: أتعلمين ماذا يعنى أن تنام ابنتي خارج المنزل؟

أجبته مرتبكة ً: ولكن يا أحمد…

بغضب أسكتني: ولكن ماذا؟

بهدوء، أجبته: أردت أن نبقى وحدنا هذه الليلة فقط، لنُعيد إحدى ليالينا الدافئة.

أعاد سؤاله: لماذا لم تخبريني قبلًا؟

قلت: كنت أريد…

رد مباشرة: ماذا يا منال؟

حملق بعينيه، وكأنه سيهجم على عدو، ليصرعه، مكملًا استجوابه: وهل تتوقعين أني سأكون فرحًا، نشوانًا بقرارك هذا؟

بشجاعة أجبته: أحمد، أردت مفاجأتك، لنحظى بمثل هذه اللحظات الدافئة، لنُنعش حياتنا، التي أصبحت ككوب الشاي الخالي من قطعة السكر، لا طعم لها، ولا نكهة تميزه، ألا تشعر بأننا لا يُعانقنا دفء المشاعر، ولا لذة العينين الباحثتين عن توأم الروح.

جاء رده صاعقًا، وبطريقة غير متفهمة: أي مشاعر تطلبين بعد قيامك بهذا الفعل؟

بلعت ريقي، وانطفأ بريق عيني، خف توهج قلبي المحموم، دمعت عيناي، لتُعانقها نبضات قلبي، وتسليها ارتعاشته.

معتذرة أجبته: أنا أعتذر منك يا أحمد، أنا فعلت ما رأيته مناسبًا لنا في هذه الليلة، ولم يخطر في ذاتي أن هذا التصرف سيُزعجك.

توجهت إلى حجرتي، وأنا أجر أذيال الخيبة، أحطم كل ما رسمته لهذه الليلة من حكايا وأمنيات، فكلماته وانفعالاته، كانت قاسية في وقت أنا أحوج فيه إلى كلمات من ثغره، يُراقصني بها، ليمسح كل الهموم المُتراكمة، التي لم تنفض غبارها سنوات.

خرج أحمد مسرعًا، وتوجه إلى بيت خالة ابنته، ليُحضرها، وتركني مكسورة القلب، أعاني الألم، متسائلة بيني وبين نفسي: ما هذه الحياة الراكدة؟ أنا ما زلت شابة، وجميلة، من حقي الاستمتاع بالحياة، أريد زوجًا، يُغرقني عشقًا، أحتاج من يجعلني أنثى، يصهرني حبًا، ودلالًا، يًراقصني غزلًا، يزرع في صحراء روحي القاحلة الفُّل والياسمين، آه، إذًا من أين أروى كل هذا العطش، كل هذا الشوق؟

نظرت إلى المرآة في حسرة، وقلت في نفسي: يجب أن أبدل هذه الملابس قبل حضوره، فلا فائدة ترجي منه مهما فعلت، اعتقدت أنه سيكون سعيدًا، لكن خاب ظني، ما أقسى أن تكون الأنثى مكسورة الخاطر، وأن يخيب ظنها في رفيق حياتها، وعشيقها، إنه موجع حد الموت.

بعد أن بدلت ملابسي، وأزلت مساحيق التجميل، جلست على كرسي في زاوية، كان متهالكًا، كروحي، جلست عليه، وبكيت ذلك الحب في حجرتي، التي تعمدتُ أن تكون في تلك اللحظات مظلمة، لا نور فيها كئيبة، كقلبي فقط، كانت تتسلل إليها خيوط من النور عبر النافدة، عندما رجع أحمد مع ابنتنا سارة، ولاحظ أن الحجرة مظلمة، اعتقد أنني خلدت للنوم، أدخل سارة إلى فراشها، وبعد أن اطمأن عليها، جاء متسللًا، فقد كان يظن أنني نائمة، وفى قرارة نفسه، كان يستشعر الندم على تصرفه معي، في هذه اللحظات، تفاجأ حين رآني أجلس في الظلام، مستسلمة للبكاء، أراد الاعتذار لكن كبرياءه وغروره كرجل أحال بينه وبين ذلك، لكنه اقترب مني واضعًا يده على كتفي، ليرضيني ببضع كلمات، ولمسات، لكنه يجد صعوبة في إطلاقها.

بصعوبة ناداني: حبيبتي منال، أنا لست رجلًا صعبًا، ولست عديم الإحساس، أنا أحبك، أحبك جدًا، فكلماتك الحنونة تأسرني، وحبك يلين قلبي، ويروي ظمأ روحي المتهالكة.

أخذ يسترسل في الكلام، كأن العقدة انفكت من لسانه، وأكمل حروفه بصعوبة، وكلي شوق لها، قائلًا: أنا أعتذر لكِ عن تصرفي معك بهذه الغلظة، فإن كثرة انشغالي، هي من أبعدتني عنك، وجمدت كل أحاسيس الحب والشوق عندي، وما حصل هذه الليلة لحظة عابرة أفرغت فيها كل شحنات الغضب والتعب التي كانت تختزن في داخل صدري، وترهقني.

أجبته بلوم: وما ذنبي أنا يا أحمد؟ ألم تشعر بحاجتي إلى حبك؟ لقد أهملتني كثيرًا، وعندما أردت تجديد علاقتنا، وأبعث فيها الحياة والعنفوان قبل أن تموت بشكل نهائي، فعلت ما فعلت، كلما احتويتك بابتسامة دافئة لطيفة قابلتني بابتسامة صفراء مصطنعة لا طعم لها ولا لون، أيضًا ولا رائحة، كأنك الرجل الوحيد الذى يكدح في هذه الحياة، لو كان جميع الرجال مثلك لما بقيت أسرة مستقرة.

تابعت كلامي، وأنا غاضبة، كأنما تلبستني أنثى أخرى، نفضت عن جسدها وعاطفتها غبار السنين العجاف: أنت إنسان عديم الإحساس، فإذا كنت تشعر أن وجودي يمثل حملًا ثقيلًا عليك، أو ليس له قيمة، أو معنى في قلبك، إذًا، لنجعل نهاية لهذه الحياة البائسة، التي توشحت بالسواد، أنت لم تعد تحبني لقد تغيرت سريعًا بعد الزواج، فأصبحت في حياتك كأني واجب، تلتزم به لا تستطيع تركه، وتقوم به بتكاسل، حياتنا أصبحت باهتة، وأنا لم أعد أحتمل هذه الحياة، أنا لازلت شابة، وقلبي غض، أريد الحب والاهتمام، فإذا لم تستطع أن تعطيني ذلك الحب والاهتمام، فأنا لا أستطع العيش معك في هذه الصحراء القاحلة، حياة لا يرطبها الحب، فهي ليست حياة، فما الحياة الزوجية إلا الحب، أحمد، أنا لا أستطيع العيش معك، وأنت تغلق صندوق قلبك، ولا تبوح لي بحبك، أنا سأترك البيت، وأعود لحياتي السابقة، إلى بيت أهلي فقد تعبت وأنا أتسول منك كلمة لطيفة، ومشاعر دافئة.

لاطفها معتذرًا، كأنه أحس بأنه سيفقدها، وخاطبها بعشق: حبيبتي منال، أنا أعتذر لك عن تقصيري معك، وإهمالك، فأنا فعلًا انشغلت عنك، وعن ابنتنا سارة كثيرًا، أنت محقة في كلامك، ولكن لا تفكري بترك البيت، فأنا لا أستطيع العيش بدونك.

تنفس بعمق، وأغمض عينيه: حبيبتي أنا أحبك، ولكن أجهل كيف أفصح عن ذلك الحب، وبأي لغة أعبر به، فكلما جئت لأفصح لك عن حبي بكلمات جميلة، استشعرت أن رجولتي تنقص، وهذا نتاج أفكاري الخاطئة، لكن لا أعرف كيف أتخلص منها، فأنا تربيت على الشدة والغلظة، واعتقدت سنينًا أنه الصواب، أعدك من الآن، أنا ملك يديك ولك، فلن أنشغل عنك، وعن ابنتي سارة إلا بالقدر المتعارف عليه لا أكثر، لقد أيقظتني من هذه الغفلة، والجري وراء المادة، فقد نذرت نفسي للعمل، ونسيت أن لي زوجة رائعة مثلك، أنا أحبك يا منال.

قالها وصوته يرتعش، كأنه يقول كلمة خاطئة، فهو لم يعتد على ذلك.

بادلته لغة الحب: أحبك يا أحمد، ولا أريد أن أخسرك، فكم الشوق لك، يزداد في كل لحظة، الشوق إلى حبك، إلى أحضانك، آه، كم أحتاج همسة دافئة منك.

أجابها، وعينيه تبرقان: نعم يا حبيبتي، الآن أدركت الخطأ، وسبب هروب السعادة من بين أصابعنا، إنه الإهمال، لذلك سوف أعيد ترتيب الأمور من جديد، وسأجعلك في بداية القائمة، لا آخرها، أو في أوسطها، نعم سنبدأ حياتنا بشكل صحيح، إني أحبك، وأحب بنتنا، لا أريد خسارتكما.



error: المحتوي محمي