ضبط إيقاع الكلام بمنظور الإمام المجتبى (ع)

ورد عن الإمامُ الحسنُ المُجتبى (ع): نِعمَ العونُ الصمتُ في مواطنَ كثيرةٍ وإنْ كنتَ فصيحًا (بحار الأنوار ج ٧١ ص ٢٨٠). يربينا الإمام المجتبى (ع) على ضبط النفس والجوارح وإخضاعها قبل الشروع في أي كلمة أو تصرف لحكم العقل الواعي والمدرك لعواقب الأمور ومآلاتها، فلا يوجد من يندم على صمته إن كان عن وعي وفهم لإدراكه عدم وجود الفائدة من الكلام لأي سبب من الأسباب، فضبط الكلمة في موضعها المناسب أو التخلي عنها واللواذ بالصمت ملكة يتربى عليها الإنسان الواعي؛ لتجنبه الوقوع في المآزق والمواقف التي يصعب التخلص منها بسبب كلمة طائشة!

البلوغ لأعلى درجات التكامل النفسي والأخلاقي يمثل منهجًا يسير في خطاه كل عاقل ويتخطى مراحله الواحدة تلو الأخرى، فهناك مكامن أخطاء وأوجه تقصير يمكن أن يقع فيها المرء وعليه أن يحذر من الوقوع في حفرها، وهذا ما يعتمد على قدراته التفكيرية وامتلاكه لزمام أموره.

(ضبط النفس)، فبوابة الغفلة والضياع في متاهات دروب الحياة واتخاذ المواقف والتصرفات الخائبة هو مجانبة التفكير المنطقي الحكيم والبعد عن دراسة كل ما يصدر من المرء قبل الشروع فيه، فالخضوع للأهواء والشهوات والمظاهر الكذابة وطلب المكانات الزائفة كلها طرق خاطئة تتجه بالمرء نحو التعثر والسقوط، ومن طلب بناء القوة والاقتدار في شخصيته فلابد أن يرسيها على قواعد من الفهم والوعي لكل ما حوله، ومن ثم ينطلق بهمة عالية وإرادة لا تلين في سبيل تحقيق أهدافه ومواجهة العراقيل والصعاب، فالتحمل وطرق مواجهة التحديات هي ما يسعف ويعين المرء على تجاوز الظروف والعثرات والنهوض مجددًا من أي سقوط. كما أن الحفاظ على الصورة الجميلة لشخصيته يتطلب التجنب عن كل الشوائب التي تخدشها كالعيوب والرذائل، ومنها الاسترسال في الاستجابة للشهوات دون ضوابط تحكمها، ويمثل لنا الإمام المجتبى (ع) بمثل لها وهي شهوة الكلام يسترسل فيه حتى يصاب المرء بمقتل منها، فالكلمة غير الموزونة والخارجة بلا إحكام لها تعود على صاحبها بمردود سلبي وتجلب له الخسائر الفادحة، وهذا ما يدعو المرء إلى تغليب منطق الصمت على أن ينطق بكلمة ليست في محلها، فالإمام (ع) لا يدعو إلى الصمت عن الحق مثلًا بطبيعة الحال، ولا يدعو إلى تكميم الأفواه عن الكلمة المفيدة والحوار الشيّق المكتنف لمعلومات علمية وثقافية والتي تشكل زادًا ومخزونًا وتنمية لمدركاته التفكيرية والخطابية، وإنما يدعو إلى ضبط إيقاع الكلام وفق الحكمة والروية والإفادة، وما لم ير لها صاحبها موضعًا من ذلك فليحتفظ بسلامته من النتائج السلبية.

والتحذير من الكلام غير المدروس يعني تنبيها وإيضاحًا لتلك العوامل الهدامة الداعية صاحبها للخوض في كل حوار، ومن تلك العوامل هو حب النفس السلبي والذي نقصد به محاولة الفرد صناعة مكانة له بين الناس من خلال استجلاب جاذبيتهم له ومحبوبيته بينهم، فيتوقع من خلال المشاركة في النقاشات والإدلاء بأي كلمة يسجل فيها حضوره أنه بذلك يحوز رضاهم ومقبوليتهم ويصنع مجده ومكانته بينهم، كما أن البعض ينطلق في الحديث مع الآخرين من برجه العالي لعله يسجل بذلك إرضاء غروره وإعجابه بنفسه، وآخر يتخذ من الكلمة منبرًا للخدش في شخصيات الغير والقدح والذم فيهم، ولعل البعض لا يزن قدر الكلمة والوقت فيعتبرها مجرد تسلية ولا تخرج عن دائرة الثرثرة والفضول.

وحينما يحثّنا الإمام المجتبى على الصمت فهو يشير في أحد مدلولاته إلى الحذر من مساوئ الكلام وسقطاته ومخاطره، فيدعو إلى تهذيب اللسان وترتيب الأفكار وتصور نتائجها قبل النطق بها، فإن الصمت أفضل من التفوه بما حرم الله من الكلام كالغيبة والفتنة والخوض في أعراض الناس، والصمت أفضل من الكلمات النارية التي تنطلق منا في لحظات انفعال تدخلنا في أتون المشاحنات والخلافات، فكم من متلفظ بكلمة أورثته الندامة وجلبت له المتاعب والمصائب.



error: المحتوي محمي