محمد رضا نصرالله.. منارة ثقافية متوهجة

حين وصلني خبر احتفالية الأديب محمد رضا نصر الله بمناسبة بلوغه السبعين من عمره، عبر الأخ فؤاد نصر الله، وقد أبلغني بما أجود به بالكتابة عن أبي فراس، أجبته بتردد، كيف لي أن أكتب عن شخصية استثنائية، أخشى أن لا أوفيها حقها، فهناك من هو أحق وأجدر مني بالكتابة عنه!

أن أكتب عن شخصية مؤثرة في المشهد الإعلامي السعودي والعربي، قد يخونني التعبير، وماذا عساي أن أقول وسط أعمدة الصحافة والأدب في حق هذه الشخصية، وخصوصاً الذين يعرفونه حق المعرفة، فهم الأجدر بالكتابة عنه، وما أنا إلا مطلع على هامش منجزه المتنوع، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.

لكن الأخ فؤاد حفزني بطريقته المعهودة، مشيداً بقلمي المتواضع، تعاظم ترددي وزادت حيرتي أكثر كلما قرأت مقالة في حقه، ورحت أتساءل ماذا سأضيف ؟
بعد تلك المقالات المعتبرة والرائعة، كتابات جديرة بالاحتفاء به فهو قامة ثقافية وطنية متفردة، وبين فعل التردد والحيرة رحت أفتش عن جوانب منزوية ربما لم يتطرق إليها الإخوة، أشبه بومضات من الذكريات.

تعود معرفتي بشخصية الأديب محمد رضا نصر الله منذ منتصف السبعينات الميلادية من القرن المنصرم، وتحديداً في الليلة الرابعة عشر من شهر رمضان المبارك عام 1396 هجرية، والمكان صالة مركز الخدمة الاجتماعية بالقطيف، والمناسبة كانت افتتاح أول معرض شخصي على مستوى المحافظة للفنان حسين القطري، بينما كنت منغمساً في تأمل اللوحات ومندمجاً بحديث ممتع مع الفنان، دخل علينا رجل “يخنع” قليلاً في مشيته، صافحنا بأدب واحترام، وراح يجول في المعرض مصطحباً الفنان، ممسكاً بيده تارة ويربت على كتفه إعجاباً، تناقشا سوية، حول مجمل الأعمال الفنية، سايرت خطواتهما أصيخ السمع لما يقولان، أدهشتني تساؤلات الرجل المفعم فرحاً، حول دلالة العمل الفني وقيمة الموضوع، معرجاً على التوزان بين المبنى والمعنى، مؤكداً أثرهما في أي نتاج إبداعي.

بعد هذا المشهد بدأت أنظر للأعمال الفنية من منطلقات مغايرة، عاودت حضور المعرض مرة ثانية لأروي ذائقتي من الأعمال الفنية، وفي نفس الوقت أمني النفس أن ألتقي ذات الشخص الذي أثار اهتمامي، وسألت الفنان حسين: “من هو الشخص الذي اقتحم وقفتنا وصحبك البارحة بنقاش مطول، ويمشي بتؤدة”، أجابني: “قصدك الصحفي محمد رضا نصر الله، هذا شخص مثقف ومتذوق غير عادي”، عندها طرق اسمه مسمعي لأول مرة، وأكدت للفنان أنني كنت مبهوراً بحواره ونقاشاته التي تكشف بالفعل عن ثقافة واسعة.

وقبل أن أغادر صالة المعرض تصفحت دفتر الزيارة واستقرأت ما كتبه محمد رضا من سطور سامقة تنم عن شخصية أدبية رفيعة منذ بواكير ريعان شبابه “عزيزي الفنان حسين القطري: قبل أن أجيء إلى معرضك كنت أقرأ كلاماً لفنان عالمي يقول: إن الفنان الحقيقي هو الذي يملك القدرة على النفاذة إلى دقائق الأشياء ونقائضها، وهو كالعالم تماماً يسقط على قوانين الطبيعة بتعمق ووضوح، وإن كان للفنان فضل فإنه يرجع إلى تلك اللذة التي يثيرها من مكامن المشاهد أو المتلقي أو القارئ، بحيث تحقق تلك النماذج بين فعل الفنان واستجابة الجمهور.

لا أريد أن أبالغ كثيراً، فلقد أثارني كل ما في معرضك، وكان ذلك مفاجئاً لي، وأخيراً أكرر كلام الصديق نجيب الخنيزي، القائل بأن تكون مثل هذه المعارض مقدمة لإنتاج إبداع مواهبنا التي تلفظ بها أرضنا الغنية بالثروة الطبيعية والثروة الإبداعية – محمد رضا نصر الله 12/9/1976″.

أعتبر هذه الكلمات التي مضى عليها قرابة 46 عاماً بمثابة وثيقة مهمة، تنبئنا إلى ماذا كان ينظر الرجل للعمل الفني؟ لقد رآه بعين المثقف الواعي وليس نظرة العين العابرة.

هذا المشهد الموغل في القدم لم يكن عابراً بالنسبة لي، ترك أثراً على تفكيري، أدين به لصاحب المعرض ولقامة محمد رضا نصر الله.

إن معين الثقافة لا يأتيك فقط من قراءة الكتب، بل يتعزز سماعا لما يقوله المثقف وما يحوي عقله من فكر نير، هذا ما أخذنا به محمد رضا نصرالله عبر برنامجه ذائع الصيت، من إنتاج التلفزيون السعودي “الكلمة تدق ساعة” منذ عام 1978 – 1980، عبر سبر عقول مفكرين عرب من الخليج إلى المحيط، تعرفنا على أدباء وشعراء وروائيين وكتاب، كنا نقرأ عنهم لماماً، البرنامج أتاح لنا معرفتهم عن قرب.

حوارات محمد رضا مع قامات أدبية عربية لم تكن اعتيادية بطرح أسئلة مألوفة، وإنما قدح عقل كل ضيف لمستويات أعمق وأبعد، حوار أشبه بندوة فكرية، التماثل والتناغم بين طبيعة السؤال وفحوى الإجابة.

حوارات ذكية رسمها المحاور الجهبذ محمد رضا نصر الله بإتقان بارع، وهو لم يزل ابن الثلاثين من عمره، تأسرك معرفته واطلاعه الموسوعي وهو يقارع حوارياً صفوة أهل الأدب وشيوخ الفكر.

تلك الحلقات تابعتها حين كنت طالباً في معهد المعلمين للتربية الفنية بالرياض أواخر السبعينات الميلادية، كنا نسافر مع دوحة الفكر مساء كل سبت، فيض معرفي تلقيناه في وقت شحيح يشهد على محدودية الأفق الثقافي إلا من صحف ومجلات وكتب مقننة.

ومن بين أحد المشاهد التي عرفتني على بدايات محمد رضا بصورة أكبر، تلك الجلسة المطولة التي ضمتنا مع الأخ فؤاد نصر الله عام 1984 في دكان الخطاط رضا آل ثاني بالقطيف، وقد أسهب الأخ فؤاد عن معاناة ومكابدات ابن خاله كصحفي والبدايات الشاقة التي تعرض لها وكيف يستل تصريحاً أو إجابة معينة من لدن مسؤول أو سفير أو أمير دولة، يلاحق تلك الشخصيات بإصرار ومغامرة وسط الحشود الرسمية وقوات الأمن.

يوجد في أرشيفي قصاصات من كتابات محمد رضا المنشورة في جريدتي “اليوم” و”الرياض” بزاويته المعهودة “أصوات”، وما علق في الذاكرة حين كشف عن سرقة فنية لكاتب ما، سطا على كتاب د. عبد الله غلوم، وعندها قامت الدنيا ولم تقعد، الجهات العليا تدخلت في الموضوع وأغلقت ملف القضية.

يمتلك محمد رضا نصرالله قلماً بارعاً متمرساً، يتسم بالسلاسة والوضوح بعيداً عن اللغة الخشبية أو الإنشائية الصحفية المعتادة، مداده أدبي منتقاة بعناية، وفي ذات الوقت يتمتع بالجرأة وسبر المسكوت عنه، ولديه خزينة معلومات في شؤون متعددة ومعارف ثقافية شتى، أفرغ كثيراً منها عبر المواضيع التي كتبها والمقابلات التي أجراها، ففي كل حوار تلفزيوني يستمع لرؤية الضيف منصتاً متأملاً وأنامل يده تداعب السبحة كمن يحسب الوقت لمساحة الإجابة، لزمة تستل سؤال بآخر والحصيلة صيد ثمين من الحوارات المتناثرة، استجلاء ماهر لعقول من قابلهم، ساعة زمن تنبئنا عن مدى سعة فكر محمد رضا الخلاق من خلال الضيف المقابل.

قبل 20 عاماً تجاذبت أطراف الحديث مع زملائي في غرفة المدرسين بمدرسة الحسن بن علي بتاروت، حول برنامج محمد رضا نصر الله “هذا هو” الذي تعرضه قناة MBC في تسعينات القرن المنصرم، وقلت لهم، هذا صورة أخرى عن برنامجه القديم “الكلمة تدق ساعة”، لحظتئذ اقتحم حوارنا رجل على وشك التقاعد، المرحوم أحمد بزرون أبو عادل، والذي كان إدارياً في ثانوية القطيف أوائل السبعينات، وقد شهد على نبوغ الطالب محمد رضا نصر الله المتميز عن أقرانه، فقد لفت انتباه مدرسيه وبالأخص مدرس اللغة العربية سوداني الجنسية الذي تنبأ له بمستقبل ثقافي واعد، ورآه طالباً ليس عادياً بما يحمل من فكر ومعلومات ثقافية، وكان يخوض مع معلميه في مسائل فلسفية وفكرية أكبر من عمره!

وبين زمن وآخر أسمع شهادة استحقاق لمكانة محمد رضا نصر عند الكتاب المبرزين وغيرهم، ذات مرة كنت أسوح في معرض الأيام للكتاب بمملكة البحرين، استوقفت الدكتور محمد جابر الأنصاري عن جديد كتبه وعن عوالم ثقافية متنوعة، وقلت له: لماذا عرضت عن حضور استديو قناة الجزيرة ضمن برنامج الاتجاه المعاكس؟

قال: “أتحاشى مقابلات مليئة بالتهريج والإسفاف، أستجيب لمن يعرف قيمة الضيف ويثمن مكانته – وضرب مثلاً – عندكم الأخ العزيز محمد رضا نصر الله من خيرة المحاورين، هذا محاور عملاق يعرف كيف يدير الحوار بإتقان، يقدر الشخصية ويعطيها حقها، شخص يجعلك تحلق معه في حوار ممتع ومتكافئ، وكم سعدت حين استضافني في إحدى حلقاته التلفزيونية”.

كم هي الشهادات الثمينة التي قيلت في حق أبي فراس، ومن أجمل ما قرأت بحثاً مطولاً حول سيرته الثرية بالمنجزات محلياً وخارجياً، بقلم الكاتب عبد الله المدني في جريدتي “البيان” الإماراتية و”الأيام” البحرينية، تحت عنوان: “محمد رضا نصرالله أول من فتح نوافذ الفكر المعاصر تلفزيونياً”، صفحة كاملة تسرد مكانة هذا الإنسان المؤثرة في المشهد الثقافي المحلي والعربي المعاصر.

إن كنت أعتز بهذه الإنسان وما أنجزه من وعي معرفي وفكر تنويري، متجاوزاً حدود منطقته مبلغاً رسالاته خارج إقليمه العربي للأفق العالمي، زداني اعتزازاً وسعادة خلال السنوات الأخيرة بعدما أصبح صديقاً مقرباً إلى قلبي، صداقة من نوع آخر، فضاؤها الكلمة والفن وتبادل الرأي والمشورة، الغبطة لا تسعني حين يتكرم علي بإرسال ما أنجزه من مقابلات وحوارات على مدى تلك السنين المنصرمة، أتناقش معه في كل ما يثير اهتمامي وتساؤلاتي، ويستأنس بتعليقاتي السريعة حول الشخصيات التي قابلها، وبالمقابل يستشيرني حول بعض جوانب الفن وبالأخص حركتنا التشكيلية المحلية، ولي نصيب مقدر عنده اعتزازاً بآرائي الفنية.

وما إن ألقاه صدفة وخصوصاً خارج المنتديات أو الفعاليات الثقافية أو الفنية، يغمرني بالفرح ويعانقني بابتسام، ومن تحت نظارته يحدق في مرايا السنين ويخرجني حلماً من حيز المكان، يطول بنا الكلام ويتشعب، حديثه ممتع يمتد طولاً وعرضاً، ودون مبالغة أستشعر لحظة وقوفي معه بأن عقله مكتبة تتحرك أمامي.

عناوين كتب وأسماء كتاب ومقولات وأفكار ثرية ومعلومات مترامية، وكم نورني بأشياء كانت غائبة عني، وحري بهمسته الأخوية، هي علامة صدق وقبلة محبة، “دعك من سفاسف الأمور، لا تضيع وقتك سدى إلا بما هو مفيد”، وكم دعاني لزيارة مكتبته في منزله وبكل أسف ما زلت أؤجل اللقاء، ذات يوم سوف أزور مكتبته العامرة، وإلى ذلك اللقاء المنتظر، حينها سأكون بجوار مكتبتين صامتة وناطقة.

محمد رضا نصرالله نصير للفكر والثقافة والإبداع، سلط الأضواء على كثير من الكتاب والسياسيين والشعراء والروائيين والأدباء والباحثين والفنانين، بغض النظر عن انتماءاتهم وأجناسهم وأديانهم وألوانهم وأعراقهم، فهو منحاز أولاً وقبل كل شيء للإنجازات المبدعة لبني الإنسان أينما كان، حاور العقول بمختلف مشاربها وأطيافها، تحت عناوين مختلفة وعبر برامج منوعة:-
1- الكلمة تدق ساعة.
2- ستون دقيقة سياسة.
3- ما بين أيديهم.
4- هذا هو.
5- مع المشاهير.
6- مواجهة مع العصر.
7 – وجهًا لوجه.

إنها برامج حضارية أثرت المكتبة العربية، تصنف تحت مسمى الكتب المسموعة والمرئية، فكل عقل مبدع حينما يعبر عن ذاته كلاماً، فهو بمثابة كتاب مفتوح يغوص فيه السامع في بحر فكره، إنها حوارات ارتحلت بنا إلى بحار علم وبحار فكر وبحار فن على مدى أربعة عقود ونيف من الإبحار الدؤوب لربان موهوب، والمحصلة صيد ثمين يقدر بـ 1000 ساعة حوار، حازت على عين الرضا في المشرق والمغرب، وما بينهما قلم محمد الأديب البارع، الذي بلغ سكب المداد رحيقاً عاطراً على ممر السنين، ولم يزل نابضاً بكل معاني الحب والحياة.

الأخ العزيز الأديب محمد رضا نصر الله، ألخصه في عبارة واحدة: منارة ثقافية متوهجة.


معرض الفنان حسين القطري، وحوار فني بين الفنان ومحمد رضا نصر الله 1976م



error: المحتوي محمي