في «دِلاءٌ واحتفاء».. الرويعي وآل عمار تحت مجهر الحُميدي وآل غريب

احتفى شعراء القطيف يوم السبت 12 رمضان 1442، بالشاعر أحمد الرويعي، الذي ظفر بالمركز الأول في القسم الفصيح، والشاعر حسين آل عمار، الذي أحرز المركز الأول في القسم الشعبي في مسابقة أبي تراب الشعرية الدولية، المُقامة في مملكة البحرين في شهر شعبان عام 1442هـ، وذلك في أمسية شعرية حوارية على منصة شعراء القطيف بقناة التواصل الاجتماعي “يوتيوب”.

وسلطت الأمسية الضوء على التجربتين الشعريتين المُتميزتين للشاعرين، بتقديم من الشاعر محمد آل قرين، حيث قدم كلٌّ من الناقد محمد الحُميدي، والشاعر ياسر آل غريب ورقة نقدية، تضغط الفُوكس على إنتاجهما الشعري، وإبراز جمالياته من جهة الكتابة، وأيضًا ما يختزله الشاعر في ذاته وفكره بكل ما يُعنى بما يكتبه، فإن وراء كل نص مُبدع شخصية تمتلك البيئة النفسية والثقافية، ليبزغ النص من أصابعها إلى القرطاس، ليسكن ذائقة المُتلقي.

لغة التفرد
وقدم الناقد الأدبي محمد الحميدي ورقة نقدية، بعنوان “رهانٌ حتى الرمق الأخير.. الشاعر حسين آل عمار أنموذجًا”.

وناقش سؤالًا مفاده: لماذا فاز هذا الشاعر ولم يفز غيره؟، موضحًا أن هذا السؤال يطرح ليس على الشعر وحده، بل على الأجناس المختلفة، مجيبًا: وهو إذ ينطرح داخل البيئة الثقافية، باعتبار أن الكتابة لا تكون لغير المُثقفين، فإنها تأخذ بعدًا آخر، يسير بنا ناحية تفكيك آليات الفوز وكيفياته.

وأشار إلى أن هنالك خصوصية لكل فائز، فالشاعر الحاصل على عكاظ، يختلف عن الشاعر الفائز بأمير الشعراء؛ إذ لكل جائزة لجنة تحكيم مختلفة في شروطها عن الأخرى، وأيضًا الشعراء يختلفون في أدائهم داخل القصيدة، وكيفية بناء صورهم وأخيلتهم، واستخدام أوزانهم.

وبحثت ورقة الحميدي في آلية الفوز وممكناته، عبر التمثيل بأحد الشعراء، الذين اعتادوا صعود المنصات وتحقيق المراكز الأولى وهو الشاعر حسين آل عمار، لافتًا إلى أن هذا الحديث لا ينطبق على جميع الشعراء، بل ينطبق فقط على الشاعر آل عمار؛ حيث لكل شاعر ميزة، ينفرد بها ويعمل على تطويرها.

وتناول محورين؛ المحور الأول بعنوان: مقاربة “سوسيو – ثقافية”، وقال فيه: “ومن خلال التحليل السوسيو – ثقافي، الذي يشتمل على جانبين هما: علم الاجتماع، والبيئة الثقافية؛ سواء كانت محلية أو خارجية، بطبيعة الحال ستكون المقاربة واسعة حينما نتناول جميع التفاصيل، لهذا سأقتصر على مشاركات الشاعر في المهرجانات والمسابقات.

ثلاثي الأبعاد
وقال الحميدي: “إن الحديث عن “حسين آل عمار” في اتجاهاته الكتابية أمر مقلق، ويسبب الاضطراب، لسبب بسيط؛ لأنه لا يكتب على وتيرة واحدة، وإنما يوظف موهبته لثلاثة أنواع شعرية: العمودي، والتفعيلة، والشعبي”.

وأضاف: “الأنواع الثلاثة: العمودي والتفعيلة والشعبي؛ هي ما يشتغل عليه الشاعر، حيث استحوذت على اهتمامه فأجادها وتمكن من قواعدها، وبرع فيها، فاستطاع تحقيق العديد من الجوائز؛ كجائزة “رئة الوحي”، أو جائزة “أبي تراب”، وأيضًا نال مراكز أولى، ضمن العديد من الجوائز الأخرى”.

وبيّن أن المُتابع والناقد لهذا النتاج سيدرك على الفور وعورة الطريق، الذي يسلكه الشاعر، فهو لا يتوقف عند مجرد التفكير بصيغة واحدة للكتابة، وإنما بصيغ متعددة، حيث كل شكل يفرض طريقته وأسلوبه، فالكتابة هنا تصبح نوعًا من “امتحان الذات”، قبل أن تكون “امتحان القارئ”، الذي سيقول كلمته، سواء أجاد الشاعر أم لم يجد.

وذكر أنه يشارك بلا توقف، ويسعى للكتابة بكل أجزائه، ولا يغادر فكرة إلا وعمّقها، وأضاف إليها من خياله، حتى يقتلع الصخور المحيطة بها؛ كي ينبت الورد، وتثمر الأشجار، وتغدو الرحلة الشعرية؛ رحلة في “الروح”، قبل أن تصبح رحلة في “الثقافة”، منوهًا بأنه حين يمارس هذا الاشتغال النصي، يضع أمامه “نردًا”، ونصب عينيه “رهانًا”.

دوستيوفسكي وباسكال
ونوه إلى ماهية الفوز والخسارة في دنيا آل عمار الشعرية، بأنه يراهن على فوزه وخسارته، ولكن؛ ليس كما وصفه دوستيوفسكي بـ”المُقامر” من الدرجة الأولى، حيث احتاط لنفسه، فالخسارة لديه؛ لا تعني الهزيمة، وإنما نصرًا مؤجلًا، سيأتي بعد حين، وقد صدقت تنبؤاته، فبعض الجوائز؛ نالها، وحاز المراكز الأولى في أخرى.

وأكد أن رهانه أقرب إلى “رهان باسكال”؛ الذي عاش في خضم مرحلة تاريخية فاصلة، دافع فيها عن فكرة الإيمان، ورأى أن الإنسان إذا مات وانتقل إلى العالم الآخر فهو إما مؤمن وسينال الجنة أو غير مؤمن، وسينال الجحيم، والعاقل يختار الجنة بلا شك، قائلًا: “فهو وإن لم يصل إليها، إلا أنه حاول واجتهد، وبهذا ستنعم روحه بالسلام والطمأنينة، وهكذا شاعرنا، روحه مفعمة بالطمأنينة، والراحة، والسلام، سواء فاز أم لم يفز”.

خيبة وتعزية
وعرى مفهوم الخيبات، ليُعالجها فلسفيًا، وقال: “أما الخيبات التي تحصل، والتي من الممكن أن تؤثر عليه، فهي ليست إلا علاجًا للروح كما يصرح الفيلسوف “سعيد ناشيد” في كتاب “الوجود والعزاء”، حيث يرى زماننا الحالي زمان الخيبات بامتياز، ولا بد للإنسان أن يتعلم “فن العيش”، فهذه هي وظيفة الفلسفة اليوم، وليس اختراع المفاهيم، أو البحث عن القوانين، التي تنتظم عبرها الظاهرات المختلفة”.

وأضاف أنه متصالح مع نفسه، ومستشعر ثقل المسؤولية على عاتقه، وكلما انسربت جائزة من بين يديه ازداد يقينه بموهبته، وجدارته بالحصول على غيرها، فتراه سعيدًا، وغير مهموم، ولا شيء عكّر مزاجه، أو نغّص فرحته، أما حين ينال الفوز، ويحصل على المركز الأول؛ فلا يبالغ في الفرح، إذ يدرك أن المسؤولية تضاعفت، والحبال التي تقيده؛ ازداد عددها وسُمكها.

ووجه الحميدي إلى آل عمار رسالة قال فيها: “بقدر ما يسعدني تهنئته بالفوز، ونيله المركز الأول تنتابني رغبة مماثلة؛ بتقديم التعزية له، فالمرحلة، التي تلي الانتصار، مهمة على الصعيدين الشخصي والثقافي، حيث ستختلف النظرة إليه، وسيُطلب منه المزيد، وربما يتعرض لبعض الكلمات الجافة؛ إن رفض عرضًا لحضور أمسية أو المشاركة في احتفال”.

رهان الجمال
وجاء المحور الثاني، تحت عنوان “تركيب المعنى الثقافي”، حيث غربل الحميدي مفردة مراهن، مُدللًا بما يراه من دلالتها الثقافية، وقال: “مراهن لا مقامر، فالمُقامرة تسلبك كل شيء، أما الرهان؛ فيبقي على حظوظك وما تملك”.

وطرح سؤالًا، مفاده: على ماذا يراهن الشاعر آل عمار؟ ليُجيب قائلًا: “للوهلة الأولى، قد يبدو السؤال سهلًا، لكن عند النظر والتدقيق؛ سيغدو سؤالًا تصعب الإجابة عنه، إذ ربما تأتي أكثر من إجابة، لذا؛ سأقوم هنا بالتركيز على أمر واحد، أراه الأهم، يتمثل بأن رهان الشاعر كان على “الجَمال” فقط، ولا شيء آخر”.

وعن الجمال وتحديده، يُشير إلى أن الجمال موجود داخل القصيدة، وهو الذي راهن عليه الشاعر، واستمر في استكشافه.

وبيّن أن “الرهان الجمالي”، أو الرهان على الجمال، هو ما يناقشه الناقد “سعد البازعي” في كتاب “الفرح المختلس رهان الشعر”، حيث يراه أهم الرهانات، بالنسبة للشاعر، وقال: “وهنا سنسلك هذا المسار ونضيف إليه فالكتابة الشعرية تحمل همومًا داخلها، ومن أبرز همومها: همُّ المعنى وتشكيله واستثماره داخل القصيدة”.

وتناول “رغبة “التفرد” والتميز، التي تلاحق الشاعر وتضغط عليه؛ نتيجة توسع تجربته ونيله الكثير من الجوائز، مؤكدًا أن كل جائزة إضافية؛ ثمثل قيدًا يضاف إلى الشاعر كما أنها تعتبر مدعاة للفرح والفخر.

وقال: “إن الرغبة في التفرد، وتجاوز الشعراء المعاصرين والسابقين تتمثل في “التركيب”؛ بمعناه التراكمي -أي معنى يحتوي معنى آخر-، وهذا المعنى يحتوي معنى آخر، وهكذا دواليك، وهو بطبيعة الحال مختلف عن التعقيد”، مبينًا أن القصائد المنشورة في دواوينه، أو تلك التي نال عليها جوائز، تحتوي على الكثير من التركيب، وتكاد تخلو من التعقيد، إلا نادرًا، ونادرًا جدًا.

تحت المجهر
واستعرض مجموعة من التركيبات المُستلة من قصائد الشاعر، وهي:

ذكر أن القصائد العمودية؛ يكاد يكون التركيب فيها اعتياديًا، وغير ملفت؛ بسبب طبيعة الكتابة، التي تقسم المعنى بين الشطرين، ونادرًا ما تتجاوز إلى ما بعدها، مبيّنًا أنه يمكن التمثيل بالتركيب في قصيدة “نصف كوب من غياب”، حيث يقول:
أنا طعم هذا الوقت
مر ومالح
تخامرني الصحراء والقلب ماطر

وعلق على ذلك قائلًا: “فالبداية بالإحالة إلى الذات (أنا)، يتبعها الإخبار (طعم هذا الوقت)، ثم يأتي تفصيل الطعم (مر ومالح)، وينتقل بعدها لمعنى آخر يضاف إلى ما سبق، حين يتقارب مع جفاف الصحارى (تخامرني الصحراء)، التي لا تزهر؛ إلا إذا كان (القلب ماطرًا)، فالمعنى يحتوي معنى، ويحيل على آخر، وكل ذلك في بيت واحد”.

وتابع: “يمكن التمثيل بالتركيب في قصيدة “قيثارة بأوتار صبر”:
الصبر ما انبلج الصباح بسحِّه
لكن توضأ ليلَه المجهول
عبقٌ رماليُّ الأصالة
لم يزل من عطره يتنفس الإكليل

وبيّن أن الحديث يدور حول (الصبر)، حيث يُنفى عنه صفة الأمل (ما انبلج الصباح بسحِّه)، قبل أن يستدرك (لكن توضأ ليلَه المجهول)، قائلًا: “إذن فالأمل موجود ولا يزال، وهو ما تم تأكيده في البيت الذي يليه حينما وصفه بـ(عبق رمالي الأصالة)، وهذا العبق أو الأمل (لم يزل من عطره يتنفس الإكليل)، فالمعنى الأول، وهو الصبر، احتواه معنى الأمل، ثم أضيف إليه معنى آخر؛ وهو سريان الأمل، وأنه لم يزل موجودًا”.

وأشار إلى أن قصيدة التفعيلة؛ يبرز التركيب فيها بشكل أوضح من القصيدة العمودية، حيث تتخفف من قيد عدد التفاعيل في كل جملة شعرية، إذ الشاعر يمتد بالمعنى ويضيف إليه معنى آخر وآخر، ويمكن التمثيل بمقطع من قصيدة “مشهد موثق بالدماء”، إذا يقول:
وحدي أطاردني معي
أنا كاتبي وممثلي وجميع طاقمي استفاقَ على الحياةِ كظلِّ حبلٍ كنَّ نِسوة حيِّنا يلعبنَ ما بعد الظهيرة لعبة الأرجوحة الأولى عليهِ

فحلل المقطع قائلًا: “هنا يبرز التركيب بصورة جلية، فالحديث يدور عن الأنا (وحدي أطاردني معي)، ثم تنتقل لتصبح المطاردة جماعية (أنا كاتبي وممثلي)، ولا يكتفي بذلك، بل يضيف (وجميع طاقمي استفاقَ على الحياة)، قبل أن يأتي ختام المشهد والتركيب معًا (كظلِّ حبلٍ كنَّ نِسوة حيِّنا يلعبنَ ما بعد الظهيرة لعبة الأرجوحة الأولى عليهِ)”.

وأضاف: “يمكن التمثيل بالتركيب في قصيدة “بارود على زناد البندقية”، إذ يقول:
أتحسس الجدران ما بين الأزقة
هل لهذا الصمت في أركان صدري أن يخالطه الغناء المستشيط بداخل المقهى العتيق بشارع المنفى؟

فهو يشير إلى الذات، وهي تتحسس الجدران، أثناء مرورها بين الأزقة، لكن الإجابة حين أتت، كانت سؤالًا مركبًا، بدايته (هل لهذا الصمت في أركان صدري أن يخالطه الغناء المستشيط)، ثم يضيف معنى آخر، فالغناء المستشيط يتصاعد (بداخل المقهى العتيق)، ويضيف معنى آخر، فالمقهى يقع (بشارع المنفى؟)، فهنا ثلاثة تركيبات، تواجدت ضمن جملة شعرية واحدة وقصيرة”.

وذكر أن القصيدة الشعبية؛ وهي لا تختلف عن النوعين السابقين، حيث يرد داخلها التركيب كذلك، ففي قصيدة “غبنة كافلها الأمل”، نقرأ:
والتجاعيد اعلى وجه الماي منحوتة ابشعاع ايموت ما ينزف كمر!

ولفت إلى أنه يُلحظ التركيب بوضوح، فالبداية (والتجاعيد) يخبرنا الشاعر أنها (اعلى وجه الماي)، ليس ذلك فحسب، بل إنها (منحوتة ابشعاع)، وهذا الشعاع (ايموت ما ينزف كمر!)، فالمعنى؛ احتوى معنى، والمعنى الجديد؛ احتوى معنى آخر، وهكذا.

وختم الحُميدي ورقته النقدية، مجيبًا عن السؤال الذي طرحه في بدايتها، لماذا فاز الشاعر حسين آل عمار ولم يفز غيره؟ بأن الفوز يرجع لسببين، هما: رهانه على شعره وشاعريته، وبحثه الجاد عن التميز والتفرد، مؤكدًا أن هذا ما قاده إلى اكتشاف نقاط قوته الشعرية المُتمثلة في تركيب المعنى، مع تحاشي الوقوع في خطيئة التعقيد والإبهام.

ألف مقطوعة
وفي ذات الضفة الخضراء من القراءة النقدية، تحدث الشاعر ياسر آل غريب عن ورقته النقدية التي حملت عنوان “شاعر ما بعد الذاكرة أحمد الرويعي أنموذجًا”، مُستفتحًا بما يُروى عن أبي نواس أنه استأذن خلفا الأحمر في نظم الشعر، فقال له: لا آذن لك في الشعر إلا أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة، فغاب عنه مدة، ثم عاد إليه وقد حفظ ذلك، فقال له خلف: أنشدها، فأنشدها أكثرها في عدة أيام، ولكنه قال له بعد ذلك: لا آذن لك في قول الشعر، حتى تنسى هذه الألف، كأنك لم تحفظها!

وتابع: “يقال إن أبا نواس ذهب إلى بعض الأديرة وخلا بنفسه وأقام مدة حتى نسيها! ثم حضر إلى خلف الأحمر وقال له: لقد نسيتها، حتى كأني لم أحفظها! فقال له الأحمر: الآن انظم الشعر”.

وأشار آل غريب إلى أن هذه القصة المشهُورة، التي ترد في أخبار أبي نواس لابن منظور، مفادها أن الكتابة الشعرية الحقة، تأتي بعد مرحلتي الحفظ والنسيان، موضحًا أن على الشاعر أن يقطع هاتين المسافتين، حتى يصل إلى لحظة الإبداع الذاتي، بعيدًا عن نماذج الأسلاف.

وبيّن أنه قد ينسى الشاعر جسد الألفاظ، ولكن ببقى روح المعنى متركزًا في وجدانه مع مرور الأيام، لافتًا إلى أنه ليس هناك نسيان كليٌّ، كما ليس هناك إبداع من درجة الصفر.

روح الذاكرة
واستشهد بقول الناقد علي جعفر العلاق: “إن الذاكرة الشعرية بئر طافحة، حتى القرار بخزين لا ينتهي من القراءات المنسية والواعية، ولا تتم كتابة القصيدة بمعزل عن تلك البئر الغاصة بخزينها المتلاطم”، مُضيفًا: “وعليه، يُستنتج من هذه المقولة أن الشاعر ليس بإمكانه أن ينفصل عن ذاكرته، فهي المادة الأساس في صياغة تجربته، وهذا النسيان الغائب يتحول أثناء الكتابة إلى حضور”.

وتابع: “إن علاقة القراءة بالكتابة تُجسدها كلمات الناقد خورخي بورخيس، ومفادها: “أظن أن ما قرأته أهم بكثير مما كتبته؛ فالمرء، يقرأ ما يرغب فيه، لكنه لا يكتب ما يرغب فيه، وإنما ما يستطيعه”.

وقال آل غريب: “وكم لهذه الكلمة الواقعية من مصداقية، فنراها في كثير من النصوص”، مُؤكدًا أن الإبداع، هو ما يستطيعه الشاعر، وليس ما يطمح إليه.

ما بعد الذاكرة
وبيّن أن الشاعر القادم -كما يراه-، هو من يذهب إلى التاريخ، ليس بقصد المكوث الدائم فيه، ولكن بغية قراءته مرة أخرى؛ لاكتشاف الشخصيات الكونية، وقال: “الشاعر القادم، لن يتعامل مع القرآن الكريم مثلًا بالاقتباس، وإنما باستلهام المعاني، فالشاعر القادم سيصطدم بالكثرة الكاثرة من القصائد لكنه سينطلق ليس من خلالها وإنما من صوته الخاص، فذاتية الشاعر، هي التي تضمن له مشاهدة الكون بأكمله”.

وقال: “من شعرائنا الجُدد في القطيف، الشاعر أحمد الرويعي، الذي دخل إلى عالم الشعر من بوابة الدهشة، واستطاع أن يُلفت الانتباه؛ لما يمتلك من الإبداع، وتفعيل طاقة القصيدة”.

وأضاف: “إن ملامح هذا الشاعر، الذي يُسميه شاعر ما بعد الذاكرة، تكمن في مخيلته المُتجاوزة قبالة الذاكرة التراثية المعروفة، فهو يُؤثث عالمه الفرداني الساحر، فالقصيدة عنده كون متجدد”، مُستشهدًا بأبجدية الرويعب بمقطوعة، وهي:
رأيت القصائد..
وهي تحاول أن تستقل عن القافية
ويأتي الندى في الصباح
لكي يشرب اللون من وردة ظامئة

حمامة تاروت
وأوضح أن ما يُميز الرويعي أنه يبحث عن صوته الخاص دائمًا، وكان هذا البحث الدؤوب يأتي مشروعه الشعري، مُعرجًا على بعض بوحه:
أحتاج حنجرتين.. كيف وأين لا أدري
فقط أحتاج صوتًا داخلي.

وبيّن هذا الصوت الداخلي؛ وهو صوت الضمير أو صوت العقل والقلب أو صوت الإلهام الذي يحتاج إليه ليكون منتجًا لا ناقلًا.

وأشار إلى أنه في قصيدته الفائزة، التي حملت عنوان “دون أن يوقف الرياح” يُوظف الشاعر مفردات الذاكرة النبوية (الغار)، (جبرائيل)، (الوحي)، لينطلق بها لما وراء مخيلته، حيث استطاع أن يحررها من دلالاتها الأولى، ليطلقها في المجاز الرحب، مُؤكدًا أن الرويعي لا يستطيع الانفكاك عن ذاته والتعبير عنها، فقصائده ذاتية من الدرجة الأولى، مُترنمًا بقوله:
وحلقتُ في قوس الصعود فكدتُ أْنْ
أراكَ
ولكن جلبتني الكثافة
تشجرت في صحو المجاز وحينها
تفاجأت أني يا نبي حمامةُ

واختتم ورقته النقدية، بقوله: “نعم الشاعر أحمد الرويعي حمامة تاروت، التي انطلقت من أعشاش الذاكرة إلى سماء المُخيلة، مازال يشكل عجينة اللغة، ومازالت رحلته إلى الطريق اللانهائي، مُزودًا بحقائب الكثافة”.



error: المحتوي محمي