أنتهز هذه الفرصة السعيدة والمباركة، بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، وأرفع أسمى آيات التهاني والتبريكات لكم على هذا التوفيق الإلهي، وأبارك لكم حلوله علينا جميعًا بالخير والبركة، وأسأل الله أن يوفقنا لصيامه وقيامه وتلاوة كتابه الحكيم، ويجعلنا فيه من المرحومين، ولا يجعلنا فيه من المحرومين، وأن يعتق فيه رقابنا ورقابكم من النار، وأن يدخلنا الجنة مع الأبرار، مع محمد وآله الطيبين الطاهرين، وكل عام وأنتم ونحن والوطن والأمة الإسلامية والعربية والعالم كله بألف بخير.
يحل علينا شهر رمضان المبارك الثاني، وما زالت أجواء كورونا كوفيد-١٩ تخيم علينا وعلى العالم بأسره، وما زال هذا الفيروس يحصد ضحاياه ويفتك في أرواح الكثير منهم، وبرغم ما قامت به وما زالت أجهزة الدولة عبر كل إداراتها ومنصاتها الرسمية والأهلية، من تثقيف المواطنين والمقيمين عن طبيعة وخطورة هذا الفيروس وسلالاته وتطوراته المدمرة على الكيان البشري والمجتمعي، وبرغم هذا الترشيد والتوجيه المستمر عبر كل قنوات التواصل الاجتماعي، والإعلامي المرئي والسمعي، إلا أنه ما زال هناك بعض المواطنين والمقيمين يحاولون إقناع أنفسهم أنهم أصبحوا في أمن من هذا الوحش الكاسر فيروس كورونا، عبر مخالفتهم باختراق القوانين التي سنتها الدولة، ومنظمة الصحة العالمية لمواجهة وباء كورونا، والحجة التي يعتقد بها البعض أنه قد تم أخذ اللقاح المضاد لهذا الفيروس.
وحيث إنه لا يمكن مواجهة هذا الوباء إلا عبر الالتزام الكامل بالاحترازات الوقائية من هذا الفيروس حتى بعد أخذ جرعة اللقاح، هذه فقط لمحة تحذيرية وتذكيرية، بأننا ما زلنا أمام مواجهة عدو لا يرحم، بل يفتك دون أي رحمة في ظل مؤشر الإصابات في الارتفاع بعد انخفاضها.
وأود الإشارة هنا إلى أن أجهزة الدولة جميعها ودون أي استثناء قامت وما زالت تقوم بواجبها ودورها تجاه مواطنيها والمقيمين على أرضها المباركة، من توجيه وترشيد صحي واجتماعي، لحماية الجميع من خطر هذا الفيروس، كذلك لا ينبغي أن نتغافل عن دور الجانب الديني أو الشرعي، حيث كان له دور فاعل في نجاح هذه الحملة التوعوية، حيث كان يؤكد على أسس ومبادئ الالتزام بتلك الإجراءات الاحترازية، بل أكثر من ذلك وضع فتاوى شرعية صارمة لمن يخالف تلك الأنظمة الاحترازية التي فرضتها الدولة وجميع أجهزتها.
وعلى الجانب الفردي، كشف الشارع المقدس مرونته في إبلاغ أحكامه الشرعية بشكله العام والخاص، حيث أباح الإفطار في شهر رمضان لكل من عنده عذر صحي، كشريحة أصحاب الأمراض المزمنة، أو الذي ليست معه أي أمراض مزمنة، بمجرد بلوغ صحة الإنسان للخطر أوجب عليه الإفطار، علما بأن هتك شهر رمضان المبارك في حالة تعمد الإفطار فيه دون أي سبب شرعي أو صحي، هذا يعتبر في نظر الشرع هتكًا ومن الذنوب الكبائر، التي تستلزم من المسلم الاستغفار عليها، بل لا يكتفي بذلك إذ يوجب عليه عقوبات شرعية تأديبية، كقضاء اليوم أو الأيام التي تم الإفطار فيها تعمدًا ودون سبب، وصيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا أو عتق رقبة، كما هو حاصل في العصور السالفة، والذي ما زال موجودًا في بعض دول إفريقيا، حيث باستطاعة الإنسان تملك إنسانًا مثله، حسب مفهوم العبودية البشرية التي كانت في العهود السابقة، وإلى عهود قريبة في بعض الدول الإسلامية وغير الإسلامية.
وبرغم رحابة الإسلام في أحكامه الشرعية التي تدعو إلى اللين والمرونة والبعد كل البعد عن مبدأ الخشونة والكره في تطبيق أحكامه، حيث إن الشارع المقدس يراعي في تطبيق الحكم الشرعي، الظرف الذي يمر به الإنسان، بل وأكثر من ذلك يرى مراعاة للظرف الإنساني، في مقابل تعطيل الحكم الشرعي حتى تجاوز مرحلة الحرج منه، حيث تعتبر أحكام الله والشارع المقدس واجبة وملزمة شرعًا، وسواء كنا نعلم غايتها أو فلسفتها أو مقاصدها أو لا نعلم، فهي ملزمة علينا. حيث إن الشارع المقدس، عندما يرى هذ الحكم الشرعي، يتضارب ويتعارض حال تطبيقه مع تعرض حياة الإنسان للخطر في الصحة أو أي وضع آخر، هنا يقف الشارع موقفًا آخر، حيث يضع سلامة الإنسان في الأولوية على تطبيق الحكم الشرعي، كمثل حالة إجازة الإفطار للصيام في نهار شهر رمضان المبارك، عند حالة تدهور صحة الصائم وعدم قدرته على الصيام، هنا الشرع يوجب عليه الإفطار، ويجعل الأمر في مكان الوجوب الشرعي أن يفطر لأجل إنقاذ حياته من أي عارض صحي قد يقع عليه أثناء الصيام، ولو خالف هذا الصائم وأصر على تمام الصيام مع احتمالية الخطر المؤكد على صحته، يصبح هذا العبد آثمًا ويبطل صيامه ويترتب عليه حكم شرعي تهذيبي لربما لا يقل عن الفاطر عمدًا في ضحى شهر رمضان دون سبب.
الديانات الإلهية والإسلامية بالخصوص أنزلها الله رحمة للعالمين لا نقمة عليهم، والإسلام أحد مصادره الرحمة والمودة والمرونة بين المسلمين وغير المسلمين، والبعد كل البعد عن مفاهيم الغلو بجميع أنواعه وأشكاله، ولأن الغلو وسيلة شيطانية ذكية يزرعها الشيطان في عقل الإنسان باسم الدين تارة أو باسم الفكر تارة أخرى، حتى يحول سلوك حامله إلى بلدوزر مدمر لحياة الإنسان والمجتمع.
استوقفتني مناقشة مع بعض الأصدقاء، حول أحكام الله والشارع المقدس بين المرونة والغلو في العبادات، على أن الأحكام الشرعية جاءت بروح مرنة ولينة وبروح الثواب قبل العقاب، وبروح المصلحة للإنسان والمجتمع، قبل فرض الحكم الشرعي، بل الأحكام الشرعية بشقيها الواجبة والمباحة، أمرنا الله بها في حالة عدم وجود مشقة على الإنسان، كحالة تعارضت أوضاعه الصحية أو الأمنية مع الحكم الشرعي، وهنا الله يؤكد لنا هذه الصورة الرحمانية في سورة البقرة [آية رقم ٢٨٦] حيث قال جل شأنه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} فالنتيجة هذه المناقشة حول الحكم الشرعي من بحوث الشرع، ويتضح أن الصائم بالحكم الشرعي مثاب ومأجور عند الله، حين لا يكون هناك أي خوف أو تعارض مع وضعه الصحي حال أدائه هذه الفريضة، وأنه على علم بأن أوضاعه الصحية قادرة على تلبية هذا النداء الرباني وهي في أحسن ما يكون ولديها القدرة الكافية والضامنة لسلامته من أي خطر صحي قد يصاحبه مع أداء فريضة الصيام أو غيرها، وكذلك الفاطر بالحكم الشرعي، مثاب ومأجور عند الله، ولا يبعد أن يكون الأجر والثواب على نفس القدر من أجر وثواب النموذج الأول، لأنه راعى أوامر ونواهي الله، عندما راعى جانبه الصحي من التهلكة عبر أدائه هذه الفريضة الشرعية، وتلبيته لأوامر الله سبحانه في قوله تعالى في سورة البقرة [آية ١٩٥] حين قال: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ}، وعلى قاعدة صوموا تصّحوا، كما ورد في الحديث الشريف، بشرطها وشروطها، لا بعنوانها، كما أن أداء فريضة الحج يستوجب الاستطاعة المالية والجسدية والأمنية وحفظ الأهل من المخاطر حال السفر، وهي شروط أساسية لكي يتمكن المسلم من أداء فريضة الحج، ولو سقط واحد منها بطل حجه، وهذا ينطبق على سائر الأحكام الإسلامية والشرعية مع الأخذ برأي أهل الاختصاص.