كم أدهشتني تلك المصادفة الجميلة مع ذلك الرجل الثمانيني المؤمن وهو يدخل المستشفى بصحبة اثنين من أبنائه؛ أحدهما يدفع كرسيه المتحرك والآخر يداريه بقلبه وحواسه.
سر دهشتي هو أمر لا يمكن أن أفهمه؛ كيف لرجل بحالته وعمره وبتلك اللحظة التي هو فيها أن يسبقك بالسلام والترحاب وبابتسامته المعهودة التي تشق عنان الفضاء بنورها وصدقها وهو لم يكد يراني فقط سمع صوتي وعرفني وكناني بكنيتي ونحن أصلًا لا نلتقي إلا مصادفة هذا قبل أن يلتزم بالبقاء في منزله بسبب حالته الصحية ومن قبل كورونا، كشفها الله عن أهل الأرض عاجلاً غير آجل. يا الله، أي بصيرة يمتلك هذا المؤمن فيرى ويسمع ويشعر بها! وأي لطف خفي لا نعلم سره! وأي قلب يحتوي وينبض للناس محبة وسلاماً وإيمانًا! وإني لأظن أنه يعامل الناس ويعرفهم كما يعاملني ويعرفني، وصدقوني حتى اللحظة وقد مضى على المقابلة أكثر من أسبوعين مازلت مندهشاً من الموقف، وأسيراً لتلك اللحظة الرائعة التي لن تغيب عن بالي ما حييت.
قلة أولئك الذين على شاكلة “عبود” الجنبي؛ هذا الاسم الذي نعرف به الحاج عبدالله الجنبي أبا سعيد منذ كنا أطفالاً والذي مازالت أرفف بقالته العتيقة شاهدة على سنواته المشرقة بها، والمبنى لم يزل صامداً كما عرفناه من القدم وكأنه ينتظر عودته له، هذا المبنى الصغير هو شاهد من شواهد القديح والذي لا ينسى فقد كان الممول الأول الذي يوفر الأطعمة وحاجات البلدة من المؤن الرئيسية بالإضافة إلى محلات المسباح والشرفا والجارودي وهي أشهر أربع محلات في القديح في الزمن القديم، ولا تزال أماكنها شاخصة وإن تحولت إلى أغراض أخرى.
كذلك عرفنا ومازلنا نعرف أبو سعيد من خلال حسينيته العامرة؛ ذلك الصرح الشامخ بعطائه وبعمر هو من عمر صاحبها أو أكثر -أطال الله عمره- وهي أشهر من أن نذكرها هنا وبرغم صغر حجمها ولكن رحابتها برحابة قلب صاحبها الطيب المؤمن وببركة منبرها الشريف ولكم أن تتخيلوا أنها لا تضيق بالمؤمنين أبداً مهما كان عددهم وهو لطف آخر لا نعرف سره.
تمامًا كما اللطف الذي خصني به أبو سعيد في المقابلة حيث رآني قبل أن يرى شخصي فقد أحسّ بوجودي وسبقني بالسلام والكلام فبعثر أحرفي وعقد لساني، فهنيئاً لك ما أنت فيه من لطف وأفضال ربانية سابغة، وهنيئاً لك بهؤلاء الأبناء الأوفياء الذين يحيطونك بالمحبة والوفاء ويجسدون المعنى الحقيقي للبنوة والذرية الصالحة. هؤلاء الذين جعلوا لك من قلوبهم سكناً ونذروا أنفسهم لخدمتك وبأقصى ما يستطيعون لعلهم يوفون لك ولو بالقليل من صنيعك لهم.
لك الدعاء الخالص أيها العبد الصالح والعم العزيز بالصحة والعافية وأن تظل النور الذي يضيء لنا النفق حتى نفيق ونرعوي ونسلك سلوككم وننهج طريقتكم المثلى ولنا منك العِبرة في أن نحاول أن نكون بعض بعضك ونكسب بعض بعض صفاتك، فأمثالك قلة في هذا الزمن ممن يملكون خصال المؤمنين الحقة من صدق المعاملة ونقاء السريرة ومراعاة الشرع والعرف فلم يبق لدينا يا أبا سعيد إلا الحسرة رغم ما يحيطنا من نعم وعلم ومعرفة يمكن أن ترشدنا إلى ما أنت عليه أو بعضه ولكن هيهات لأن العلم لا يجلب القوامة الحقة والتعاليم الشرعية والأخلاقية لا تفرضها الأقلام ولا الأصوات ولكنها البصيرة والهداية والسجية النقية التي أنت وأمثالك القلة الباقية كنتم ومازلتم عليها فهداكم الله حق هدايته ومن مناهل قليلة وخجولة كانت على أيامكم التي افتقدت العلماء وطلبة العلم والمدارس ولكنكم عرفتم العبادات والمعاملات الشرعية وعملتم بها أفضل مما نحن عليه وحافظتم على أعرافكم القويمة، وقد أصبحتم لنا المثال الذي نحاول أن نقتدي به والنور الذي نبصر به حتى الساعة. نحن الذين نعيش عصر التقنيات وقد ملكنا فيه كل شيء ونحسب أننا الأفضل ولكننا ويا للأسف وبسبب غرقنا في الملهيات والغفلات أسوأ مما نظن فلا نكاد نعرف أو نهتم ببعضنا فضلاً عن سلوكنا وأعرافنا وديننا والذي أصبح اتّباعه من عدمه حرية شخصية، ورغبة أو زهد.