المكاسب لا تدوم

لأن المكاسب من العناصر السائلة فهي لا تدوم بل تتبخّر سريعًا متى تركت في بيئة انتهازية مشتعلة، وهذا ما يغفل عنه البعض الذي يشتري المظاهر بالجوهر ويتصوّر أن ما كسبه سيكون في حوزته ومن أدواته وسيتجمّد مكانه حقبة من الزمن. قرأت في أحد المنتديات الاقتصادية قبل عقود أن مكاسب الأسهم بمثابة “حرامي” إن لم تقبض عليه طار، وهذا هو الواقع الذي يعيشه متداولو الأسهم سريعة التأرجح حيث تواجد المكسب يغري للدخول بقوة وبعد برهة يحدث ما لا يحمد عقباه تختفي المكاسب ويضيع معاها كل رأس المال. ولا جدال أن مكاسب نقاط المباريات والمنافسات ذات قيمة ماديّة ومعنوية -وليست معلّقة في الفضاء- تضاف أرقامها إلى الرصيد ويحدّد الترتيب وبما يعزز مثلًا موقف الفريق في الدوري، والشاهد أن المكاسب التي لا يتبعها مكاسب أخرى مآلها إلى زوال.

فرص الحياة لا تنتهي وهي تمرّ بسرعات متفاوتة ونلاحظ مرور محطات إيجابية عديدة تدعم الإخوة والمساواة بين جميع شعوب الأمة الإسلامية وتنبذ التطرّف والطائفيّة ولكنها لم تترجم ولم تستغل كما ينبغي حتى ضعفت وتلاشت مرة بعد أخرى وهذا هو ديدن الحياة وتجاربها، ما يتوفر معك دون استفادة واستخدام يصدأ ويضعف ويتهالك لا محال ونبكي ضياعه. الثقافة التشاؤمية الزائدة تنظر إلى كل الفرص نظرة سوداويّة ولعلّها مسحوبة على ما سبق عندما تشحّ الإنجازات أمام سيل المبادرات وهنا يقول أفلاطون “الزيادة المبالغ فيها في أيّ شيء تؤدي إلى ردّ فعل معاكس حتمًا”، لذا نحن لا نرى النعم التي بحوزتنا ونبكي ليل نهار على بعض الأمنيات التي لم يحن وقت مجيئها بالكيفية التي تقنعنا بعد.

بعد دورتين إيجابيتين من لقاءات الحوار الوطني بين شريحة واسعة من نخب الوطن، صدرت عام 2004 الموافقة السامية لإنشاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني ومقرّه الرياض وقام المركز ولا يزال بجهود عديدة لتجسيد أهدافه من مناقشة مختلف قضايا الوطن إلى تشجيع الأفراد على المساهمة والمشاركة في صياغة خطاب الاعتدال ونشر ثقافة الحوار داخل المجتمع. بين عامي 2003 و2015 عشر لقاءات وطنية تمت بين شرائح المجتمع ساهمت بلا شك في فتح مسارات تعارف وتواصل وتحاور وأتاحت الفرص إلى طيف واسع من النخب الدينية والثقافية والاجتماعية والشبابية إلى مقابلة نظرائهم من المناطق الأخرى والمشاركة في برامج المركز المتعددة، ويبقى السؤال بديهيًا عن مكامن الضعف حيث لا تزال نبرة التعصّب والتطرف الطائفي تنتهز جزءًا يسيرًا من فرصة لتطفو على أمواج وسائل التواصل. من يتواصل ويساهم في برامج المركز يلمس التقدّم وإن بدا يسيرًا لكنه ثمين لأنه انطلق على قواعد إنسانية ومجتمعية محترمة. يقول ديكارت: إن اختلاف آرائنا لا ينشأ عن كون بعضنا أعقل من بعض، بل ينشأ عن كوننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة ولا نطالع الأشياء ذاتها.

خلال مناقشات توصيات اللقاء الوطني الخامس الذي عقد في أبها عام 2005، ذكر الشيخ المهندس حسين البيات أنه “لابد أن يكون للمذاهب الإسلامية حقًا داخل الوطن، وتمكين جميع أفراد المجتمع من المشاركة في المؤسسات الحكومية بما يناسب قدراتنا وكفاءاتنا، وأدعو الاقتصاديين إلى التركيز على سعودة جميع المشاريع التنموية.” إشارة ثمينة إلى أهمية الدعم الاقتصادي وهو بمثابة شريان الحياة والمسؤولية تكاملية شاملة ولا جدال أن المركز يقوم بجهود كبيرة لتعزيز قيم التعايش والتسامح بين مكونات المجتمع ونبذ التعصّب والتطرّف والكراهية حيث طرح مبادرات تجاه مسؤولية الإعلام والمناهج التربوية ومؤسسات المجتمع المدني كما الاستفادة من تجارب دولية سابقة وهي مبادرات طويلة الأمد الإشارة إليها بحدّ ذاتها خطوة مهمة على الطريق وعلينا جميعًا دعمها والسير مع ذات النهج في أقوالنا وأفعالنا حتى نكون مع المركز في تحقيق رسالته السامية.

وجهة نظر مهمة حول أهداف المركز طرحها الدكتور غازي القصيبي – يرحمه الله – حين قال: “إن هدف المركز هو إنشاء ثقافة للحوار تصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة المجتمع اليومية ومن أسلوب تفكيره ومن طرائق تعبيره. إن الذين يريدون تحويل المركز إلى مكان لتفريخ القرارات يسيئون دون قصد إلى فكرة نبيلة رائدة ويسهمون دون أن يدركوا في خنق المشروع الذي يعتقدون أنهم يؤازرونه ويؤيدونه”.

وفي يونيو 2010 وعن الحوار الوطني وأهميته قال الشيخ حسن الصفار: “إن انطلاقة المشروع في المملكة جعلنا نشعر بتغيير ملحوظ في الأوضاع الداخلية العامة، وكان ذلك جليًا سواء على صعيد الحراك الفكري والإعلامي، أو على الصعيد الاجتماعي”. وتابع “إن العقلاء في البلاد تبنّوا مبدأ الاعتراف بالآخر واحترام الرأي والرأي الآخر، وكذلك الاعتراف بالتنوع المذهبي على وجه التحديد، وكل تلك المبادئ أدوات حضارية ودينية ووطنية للتواصل بين مختلف شرائح المجتمع”، مشيرًا إلى أن الأوضاع الثقافية والفكرية تغيرت بسبب اعتماد العقلاء الحوار كأداة حضارية ودينية، بدلًا من فتاوى التكفير وتجاهل الآخر وعدم الاعتراف بالتعددية. (منير النمر – جريدة الرياض).

وتعتبر القمة الإسلامية الاستثنائية والتي عقدت في العاصمة الإسلامية مكة المكرمة ديسمبر 2005 منعطفًا كبيرًا باتجاة تعزيز الوحدة الإسلامية حيث ذكر بيان القمة المذاهب الثمانية المعترف بها رسميًا في منظمة المؤتمر الإسلامي وهي الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والجعفري والزيدي والإباضي والظاهري، ونصّ البيان على أن من يتبع هذه المذاهب مسلم ولا يجوز تكفيره ويحرم دمه وعرضه وماله، وأكد تعميق الحوار بينها وتعزيز الاعتدال والوسطية والتسامح، وندد بالجرأة على الفتوى ممن ليس أهلًا لها. وقطعًا، هذا التطوّر من البديهي أن يواجه بعض العقبات وفي مستويات متفاوتة حيث ذكرت الدكتورة بدرية البشر خلال إحدى مداخلاتها ضمن نقاشات مركز الحوار الوطني: لاحظت أن هناك خشونة في التوصيات ولا أعتقد أنها من أدبيات التوصيات، ثم في بيان مكة هناك اعتراف بالمذاهب ونجد في التوصيات ما يخالف ذلك، والتوصيات تعاني من ضبابية المضمون وأيضًا في الصياغة، كذلك التواصل والتعاون مع الآخر مطلوب على ألا يمس ذلك الوحدة الوطنية، والدعوة إلى نبذ العنف والتعصب والدعوة إلى ما يكفل حقوق الآخرين. ترجمة القرارات تحتاج إلى أدوات نافذة ومتابعة من كل المعنيين حتى تصبح واقعًا ملموسًا منجزًا.

وخلال الشهر الماضي مارس 2021 زار البابا فرانسيس المرجع الأعلى السيد على السيستاني (حفظه الله) في منزله المتواضع بمدينة النجف وتبادلا الحديث عما يعزز العلاقات والقيم الإنسانية حيث أكد السيد السيستاني للبابا اهتمامه بأن يعيش الموطنون المسيحيون في أمن وسلام وبكامل حقوقهم وأهمية تثبيت قيم التعايش السلمي والتضامن الإنساني بين الجميع. وكان البابا فرنسيس قد ذكر أن اللقاء الذي جمعه بالمرجع الشيعي في العراق، آية الله علي السيستاني، “أراح نفسه”، واصفًا السيستاني بـ”الرجل المتواضع والحكيم”، ويعتبر هذا اللقاء حدثًا بارزًا يضع ثوابت يمكن الانطلاق منها نحو الأمن والسلام والحقوق الإنسانية العالمية. كما أشارت (العربية نت) إلى أن السيد السيستاني تطرق إلى الدور الذي ينبغي أن تقوم به الزعامات الدينية والروحية الكبيرة في الحد من المآسي في الوطن العربي، وحثّ القوى العظمى على تغليب جانب العقل والحكمة ونبذ لغة الحرب، وعدم التوسع في رعاية مصالحهم الذاتية على حساب حقوق الشعوب في العيش بحرية وكرامة. ومن منظور تقييم نتائج هذا اللقاء ونتائجه، من البديهي أن ننتظر بعض الوقت لنشعر بإنجازات تجسيد ما تم الاتفاق والتوافق عليه بين الزعيمين الروحيين.

وفي الوقت الذي يبلغ فيه عدد سكان العالم نحو 7.8 مليار تشير آخر الإحصاءات إلى أن عدد مسيحيي العالم يقارب 2.3 مليار نسمة، منهم 1.3 مليار من الكاثوليك الذين يرجعون في روحانيّاتهم إلى البابا فرانسيس موزعين حسب الأكثرية بين البرازيل والمكسيك والفلبين والولايات المتحدة وإيطاليا ودول أخرى، ويبلغ عدد مسلمي العالم نحو مليار نسمة، منهم 400 مليون من الشيعة الجعفرية موزعين بين إيران والهند وباكستان وتركيا والعراق ودول أخرى. وكما أفادت دراسة أمريكية بأن المسيحيين يشكلون أكبر مجموعة دينية في العالم بـ2.3 مليار نسمة (32 بالمئة) من سكان العالم، متقدمين على المسلمين البالغ عددهم 1.7 مليار مسلم (22 بالمئة) ثم الهندوس بمليار نسمة فيما يبلغ عدد اليهود 14 مليون نسمة.

من العناوين الثلاثة -مركز الحوار وقمة مكة المكرمة واللقاء بين البابا والسيد السيستاني- يبدو لي أن الشراكة الإنسانية هي القاسم المشترك بين أسطر تلك العناوين سواءً كان المقصد تحت مفهوم الحوار الوطني أو التعاون المذهبي الإسلامي أو حوار الأديان والسلم العالمي. هذه الشراكة تتطلب مواصلة بث ما تم التوافق عليه وترجمته عمليًّا عبر برامج واسعة الأفق ولا يتوقف ذلك على النشر الإعلامي المحدود. والأمر ليس مقتصرًا على المؤسسات ذات العلاقة بل إنها تشمل كل المهتمين والمعنيين بالأمر من جميع الشعوب الإسلامية والعالمية. وفي الوقت الذي ما زلنا نتابع برامج مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني ونلمس مشاركة مفتوحة لجميع الأطياف في برامجه المقنّنة نكاد لا نسمع أي إشارة إلى بيان مكة المكرمة والمذاهب الثمانية بشكل عام. وهنا أودّ أن أكرر رأيًا كتبت عنه مقالًا قبل عدة سنوات، أني أوصي باستخدام مسمّى المذهب الجعفري بدل المذهب الشيعي لمكانة رئيس المذهب الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عند زعماء المذاهب الإسلامية الأخرى ولأنه الاسم المعتمد في منظمة التعاون الإسلامي والمنصوص عليه ضمن المذاهب الثمانية. يقول المفكر اللبناني الراحل ميخائيل نعيمة: “السلام لا يولد في المؤتمرات الدولية، بل في قلوب الناس وأفكارهم”. ومن جهته يوصي رائد التنمية البشرية الدكتور إبراهيم الفقي بهذه النصيحة الصعبة: “يجب أن يكون إحساسك إيجابيًا مهما كانت الظروف، ومهما كانت التحديات، ومهما كان المؤثر الخارجي”.

وأخيرًا أود أن أسطر جزيل الثناء والشكر والتقدير إلى المنتديات الثقافية في الوطن ولا سيّما منتدى الثلاثاء الثقافي ومنتدى الخط الحضاري وطيف واسع من الكتاب والمفكرين لأنهم مجتمعين لعبوا دورًا رئيسًا في بلورة أفكار الحوار والتعايش بشتّى مساراته بحكم تواصلهم مع النخب في كل المناطق ومشاركتهم بعضها فيما تطرح من موضوعات وطنية داعمة طوال العقدين الماضيين.

لا أحد يحصل على كل أمنياته، والسعيد من يستمتع ببعض ما ناله ويحسبه نعمة وثمرة ثمينة تكبر بحول الله مع الأيام.



error: المحتوي محمي