التدخين عادة فموية.. لا أكثر

ربما يرى البعض أن الحديث عن عادة التدخين هو حديث مستهلك ولا يستحق التطرق له، ولكني أرى العكس تماماً ما دامت هذه العادة تعمل فينا عمل النار في الهشيم، خاصة وللأسف مع الناشئة والمراهقين والشباب والذين يشملون الآن النسبة الأكبر من المدخنين رغم منعهم وتحذيرهم وعدم بيع ما لم يتجاوز عمراً حددته الجهات الرسمية.

ولا أظن أن هناك مدخناً لا يتمنى أن يقلع عن التدخين كما فعل حضرتي، فقد كنت مدخناً في يوم من الأيام وبشكل متقطع وخجول لدرجة أن أغلب القريبين مني لم يكونوا يعلمون بذلك، ولم أكن أحمل علبة السجائر معي أصلاً، ولم أدخن أمام أحد ولا في مكان عام ولا خاص إلا أن يكون من معي مدخناً شرط أن يعيرني سيجارة من عنده.

وسامح الله صديقي المثقف البحريني العزيز والذي أعادني إليه أثناء آخر سفراتي معه قبل كورونا، كشفها الله عز وجل عن أهل الأرض جميعاً في القريب العاجل، وكم أنكر سوء هذه العادة الفموية المقيتة، وكم أخجل أن يراني أحد أبنائي أو معارفي وأنا أدخن متخفياً وأضحك على نفسي من ذلك، ولكنها لن تغلبني وهي تتلاشى مرة أخرى مع دخانها في الهواء والحمد لله.

ما لاحظته أن هذه العادة السيئة وللأسف هي الحاكمة المطلقة على متعاطيها، فهي الحاضرة والمحاصرة والمتحكمة في الوقت والمكان، والمتصرفة في المرء كيفما تشاء.

هي من تراها في وجوه المدخنين وعلى ملابسهم وبين شفاههم ومختلطة بعطورهم، بل وتكاد تتغلب على جميع الروائح التي تحملها الأمكنة،  وهي ترسم علامة جسدية على الإنسان سواء على قسمات الوجه أو ما عداه، وأعرف أحد المدخنين كان إصبعاه الوسطى والسبابة متقوسين من شدة إدمانه وكثرة مسكه للسيجارة.

إنها لعجيبة جداً هذه العادة من ناحية تصرفها في المدخن صاحبها، فهي تسحبه من بين ناسه وجلاسه سحباً، وهو في خضم حديث أو اجتماع مهم، أو حتى وسط قاعة محاضرة أو في مستشفى زائراً أو مريضا، أو في سوق وخلافه.

والأدهى ما تسببه لحظة التعاطي عند بعض الناس وكيف يفعل النيكوتين فعلته، فمثلاً حين يفطر عليه إنسان صائم سواء أكل أو لم يأكل  فيقع على وجهه أو ظهره إن كان جالساً أو واقفاً، والشواهد كثيرة، وهو ما يحدثه للجسم من ردة فعلٍ.

ومن طرائف المدخنين، أن أحد مدمني “التعميرة” باصطلاحنا عمل فيه “الجراك” ما عمل لدرجة أنه خرج من المجلس المتواجد فيه وجمع النعل والأحذية “أعزكم الله” والتي عند الباب ووضعها في حضنه وتأزر ثوبه وخرج بها، إلى أين لا تدري ولا هو يدري، فبعض الحالات يحدث لها ما يشبه السكر فعلاً.

نعود ونقول إن هذا التدخين يأخذ من الوقت أهمه ويؤجل المواعيد ومواقيت الفرائض بل ويحدد حتى نوعية الطعام والشراب والذي يتوافق مع مزاج نفثاته المتطايرة والتي تملأ المكان بؤساً وتعاسة، وأخص بالذات تلك الأرجيلة سواء التي تحمل المعسل على رأسها أو الجراك، وهي إن وجدت في مجلس كانت هي العمدة والقاضي والحكم، وصاحبها هو صاحب النهي والأمر، وإن وجدت في مقهى سحبت الحبيب من أحضان أحبته والصديق من جنب صديقه، والقريب من عند حضرة أبيه أو أمه أخيه أو قريبه إلى وقت لا تعلم متى ينتهي، ولا غرابة أن يؤثر هذا الأمر سلباً في العلاقات والترابط الأسري وربما الطلاق والفراق بين زوجين حبيبين إلى الأبد.

التدخين هكذا، حاكم متصرف في المكان والزمان، وهو جامع للأصحاب، ومشتت للجماعات حال التخلي عنه، بل ويجعل من بعض المجالس عماراً، وفجأة يحيلها إلى خراب ودمار، فقط بقطع التعميرة أو المعسل عن مكان بعينه، ليراه الناظر في يوم من الأيام وكأنه لم يكن.



error: المحتوي محمي