نظرية العسل والخل – سلسلة أفكار متقاعد

رافقني في سنواتِ العمل الطَّويلة صنفان من الشَّباب، الأوّل يجد ويجتهد وينال درجاتٍ علميّة رفيعة، ولا يملك مهارة المجاملات وقوة الخطاب النَّاعم فلا ينجح كثيرًا. والصنف الثاني، يجد ويجتهد باعتدال وينال درجاتٍ علميَّة متوسطة، لكنه متمرس في هذا النوع من التواصل البشري اللَّطيف، وبالتالي ينجح أكثر من الصنفِ الأوَّل.

نظرية العسل والخلّ صالحةٌ لكل الأجيال، لكنكم – جيل الشباب – أمامكم مشوارٌ طويل من الحياة وتحتاجونَ في هذا الطَّريق الطَّويل وسائل تعينكم على مشقَّة وطول المشوار. تحتاجونها اليومَ أكثر من ذي قبل لأنكم تعملونَ في الأسواق، وفي المصارف، وفي تقديم الطعام وتسويق البضائع، وغيرها من الوظائف التي لم يعمل فيها جيل الشِّيبان قبلكم. وهذه النظرية هي:

 تزوجت أختان من أخوين، زوجُ الأولى كان يبيع العسل وزوج الثانية كان يبيع الخلّ. ومع أن العسل أشهى وأصحّ إلا أن الأخ الذي يبيع الخلّ كان يبيعه كله كلَّ يوم، ويعود الأخ، بائع العسل، بالخيبة دون أن يشتري منه أحد.

لم يعجب هذا الأمر زوجةَ بائعِ العسل، فعزمت على أن تتقصى الأسبابَ وراءَ خيبة زوجها ونجاح أخيه، وكان ما رأته ليس في رداءة العسل بل في رداءة طريقة زوجها في التسويق والتلطّف مع الزبائن. إذا سأله الزبون: بكم العسل؟ أو عن جودة العسل أو مصدر العسل لم يتلطف معهم في الحديث ويغضب منهم. وبائع الخلّ إذا ما رأى شخصًا يمر بالقرب منه ناداه: تعالَ وخذ الخلّ، وإذا لم يكن معك مال اليوم، ادفع الثمنَ يومَ غد، وبغيرها من الكلماتِ الجاذبة. لمَّا عاد زوجها للمنزل قالت له: أخوك يبيع الخلَّ بلسانٍ من عسل، فيشتري منه الناس، وأنتَ تبيع العسلَ بلسانٍ من خلّ، فلا أحدَ يشتري منك!

بلغة اليوم هذا يعني: ما لا تستطيع أن تناله بالقوّة والغلبة يمكنك أن تناله باللّين واللّطف والمجاملة. هذه خلاصة سنوات من الخبرة في الحياة والعمل، فمع ذلك الرَّئيس والصَّديق والأب والمرؤوس، بضع كلماتٍ ليّنة تحقق ما لا تحققه الخشونةُ والصلافَة. ومن الشِّعر الحكيم في هذا الشأن ما قاله زهيرُ بن أبي سلمى وكأنه يخاطب أبناءَ وبنات اليوم:

وَمَنْ لم يُصَانِعْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ

يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوطَأْ بِمَنْسَمِ

الشبَّان والشابَّات: لن تكفيكم مهارة اليد والعقل، فلا بد من المهارة اللِّسانية. فكم من موظف كان أمهر من كلِّ الموظفين، لكن لسانه كان ينضح بالخشونة التي يسميها صراحة، وقد تكون بالفعل صراحة غير نافعة وسامَّة. أفضل منها الوجه البشوش والكلمات المنتقاة بعناية – والموزونة – في كلِّ موقف.



error: المحتوي محمي