أنا ودونَ مواربة أو استحياء كنتُ في بدايةِ حياتي من الطَّبقة المعدومة، التي بالكاد توفّر قوتَ يومها، وهي الشَّريحة العظمى من المحلّة التي ولدتُ فيها، قبل أن تأتي الطفرةُ الاقتصاديَّة وتتحسن الأحوال. ولأنني من رحمِ هذه الطبقة، لم يدخل التلفاز بيتنا إلا بعد منتصف السَّبعينات من القرنِ الماضي.
وقبل هذا التاريخ كان الأصدقاء من الجيران، آباؤهم من موظفي شركة أرامكو، دخل التلفاز بلونيه الأبيض والأسود بيوتهم. وبحكم الصّحبة والجيرة كانوا يدعونني كطفلٍ أو صديقٍ زائر، أو زميل دراسة. وغالبًا ما يستهلك التلفازُ وقتًا – أكثر من المذاكرة – في التَّعديل وتوضيح الصورة، على الخصوص إذا كنا نشاهد عرضًا كوميديًّا فيه الفنَّان الكويتي المرحوم، عبد الحسين عبد الرضا، الذي اشتهر بخفة الرّوح وكان في أوجِ عطائهِ في السَّبعينات. وأظن أن شبَّان وشابَّات اليوم يعرفونه أيضًا، فهو الذي اشتهر بلقب “حسينوه”.
في تلك السَّنوات، قبل الثامنة عشرة من العمر، كان القلبُ هو من يتحكم في الأمور، وكل شيء كان يستدعي الضحك، نضحك. حتى إننا نستعيد مشاهدَ اللَّيلةَ السَّابقة في اليومِ الدِّراسي التَّالي ونقلد الأصوات والحركات، ونغنِّي الأغنيات. لا يعني أننا كنا مرتاحين أو سعداء بأيّ حال، لكن العقل كان في طورِ النموّ أو السّبات، ما عدا التفكير البسيط، وما يحتاجه الشّاب من تدبير حياته العاطفيَّة والماليَّة.
في السَّنوات الأخيرة، وبعد أن منَّ اللهُ علينا وتحسنت الأحوال، تحول التلفاز الأبيض والأسود إلى تلفاز تقنيّ رائع، والصّورة من أوضح ما يكون، عالية الدِّقة، ولا تحتاج القنواتُ إلى بحثٍ وضبط “أنتينا”. لكن بكل صراحة، عندما وعن طريق الصّدفة يعترض طريقي في البحث بين ركامِ المحطَّات مشهدٌ من مشاهد “حسينوه”، لا أضحك. وقد لا أبتسم، وكأنني أشاهد نشرةَ أخبار أو سوالف قديمة.
أظن أن قلبي الآن مات، أو في طورِ الضمور، وعقلي في مرحلة النشاط، والآن أحلل كلَّ حركة وكلمة، ماذا تعني؟ ولماذا؟ وكل أدوات الأسئلة والأجوبة تحضر، إلا الابتسامة والضّحكة. وأكثر من هذا، الأخبار القاسية والسَّيئة تلفت انتباهي أكثر من مشاهد فكاهة “حسينوه”!
سألتُ ذاتَ السؤال لعدّة من أصحابي من مختلفِ الأعمار: لماذا لا تضحكون مع “حسينوه” في هذه الأيام، مع أن الأطبَّاء يوصون بالضحك المعقول كدواء من أفضلِ الأدوية المعالجة للاكتئاب، والمنشِّطة للقلبِ والعقلِ معًا؟ كلٌّ منهم أعطاني سببًا لماذا لا يضحك مع “حسينوه”، وكلها جائزة، بعدد أنفاسِ البشر، لكن لا أحد منهم ذكر أنه لا يزال يضحك مع “حسينوه”!