إلهي أخرج حب الدنيا من قلبي

أتينا لهذه الدنيا عراة وبمجرد خروجنا من بطون أمهاتنا لفت أجسادنا بخرقة، وسنخرج منها عراة ما عدا قطعة كفن تلفنا، هذه الحقيقة الناصعة تغيب عن الأذهان بمجرد النظر لمظاهر الدنيا الجميلة وافتتان القلب والجوارح بها، فيعيش الإنسان صراعًا بين عقله الواعي الذي يدعوه لتجنب تلك المزالق والحذر من تبعاتها يوم الحساب، وبين الانقياد كالأسير خلف هواه وشهواته التي توقعه في الخطيئة تلو الأخرى.
فما هذا التعلق بالدنيا والحرص عليها والخوف من فقدان أي نعيم زائل متعلق بها؟!
لنقف متأملين في الغاية من وجودنا في هذه الدنيا وما حقيقة الدنيا، فإن إثارة هذه الأسئلة تنفض الغبار عن أذهاننا، وتقودنا نحو الخطوة الأولى للتخلص من هذا الوباء الأخلاقي الفتاك.

هذه الدنيا ما هي إلا جسر وممر لحياة دائمة تنتظرنا، وما نمارسه فيها من أعمال وكلام نتفوه به سيكون المحدد للحياة المنتظرة، فإما نعيم دائم أو شقاء دائم فهذه النتيجة إذا تمعنّا فيها ستوقظنا من سبات الغفلة.
والغاية من وجودنا هو عملنا الصالح والعبودية الحقة لله الواحد الأحد، تلك العبادة التي تحقق فينا السمو الروحي والرقي الأخلاقي باكتساب صفة التقوى والخوف من الله تعالى، فمن يعتقد أن وجوده في هذه الدنيا دائم، وأن السعادة والنعيم فيما يقبل عليه من ملذات وشهوات حتى وإن كانت لا ترضي الله تعالى، فهو مخطئ في حق نفسه لأنه أهلكها بإقباله على دنيا زائفة، وابتعد عن حقيقة وجوده فيها، فعبث بآلية كرامته وعزته وتكامله وهو العقل المفكر.

لذا علينا التفكر والتأمل في حقيقتها فهي مهلكة لطلابها، فنعيش فيها ونحن في حالة تأهب لسفر مفاجئ في أي وقت وأي ساعة فلا نعلم متى سنغادرها، وعلينا أن نكون على استعداد تام لوقت المغادرة والرحيل بمحاسبة النفس على ما قدمت في كل يوم وليلة علنا نفيق من غفلتنا وشرة السهو.

وإذا عرفنا الغاية من وجودنا فيها بصورة واضحة، بدأنا في الاستعداد لها بالعمل الصالح وترك كل ما يهدم مبادئ سعادتنا الدائمة، فنجعل الموت نصب أعيننا نتذكره بتقوانا وحذرنا من عواقب الأمور، ونحن في أبهى وأجمل صورة ونحن نغادر هذه الدنيا الدنية، نغادرها ونحن في طاعة الله ورضاه، ولا نخرج منها بصورة نخجل من ملاقاة خالق الكون الذي أنعم علينا بمختلف وصنوف النعم التي لا تعد ولا تحصى، وقد عصيناه بها ولم نستغلها لرضاه بل لنبوء بسخط منه سبحانه!

ومن جعل الرحيل نصب عينيه عاش زاهدًا في هذه الدنيا، يأخذ منها ما يعينه على العيش فيها بسلام ويعبر جسرها بأمان، لا يتكالب على ملذاتها وشهواتها ناسيًا نفسه وحياته فيها، مقبلًا على الدنيا بكل جوارحه يخوض في غمراتها، ويأخذ كل ما يريد دون محاسبة للحلال والحرام وهمه الوحيد إشباع ذاته وملذاته، وحينها يداهمه هادم الذات ومفرق الجماعات وهو خالي الوفاض، لا يملك شيئًا لعمارة حياته المنتظرة، مفلسًا من أي عمل وطاعة، ويا ويلتى حين يستقبل مقره الأبدي بقوله: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}.



error: المحتوي محمي