اعتدنا على وصف الحقبة المعاصرة بعد التوسع في شبكة الإنترنت خلال العقدين الماضيين، على أنها حقبة مشاعية المعلومة، فنحن نعيش ثورة «إنفو – ميديا» غير مسبوقة في تاريخ البشرية، توفرت من خلالها مصادر غير محددة للمعلومة، خلافا لتاريخنا البشري الذي كانت فيه المعلومات، شحيحة المصادر، بطيئة التدفق، وخاضعة للرقابة كذلك.
المتفائلون يراهنون على أن طاقة التدفق العالية للمعلومة، ومشتهيتها، وتوسع نطاق مستخدميها، يؤدي بالضرورة إلى التقدم الفكري على مستوى الأفراد المتفاعلين مع هذه الشبكة متعددة المصادر اللامنتهية، فهل هذا الرهان بديهي كما يصوّر، أم أن هناك مخاطر مرتبطة بطبيعة الشبكة من الناحية التقنية، وكذلك بالسلوك البشري في التفكير.
فرهان المتفائلين المذكور أعلاه، يفترض بشكل مضمر بأن التفكير البشري منزه عن الانحياز المعرفي، ومتعالٍ عن المسبقات الفكرية، وأن توفر المعلومة في حد ذاته، هو المفتاح نحو التغيير والتبدّل في الأفكار، ولكن إشكالية التفكير وإنتاج المعرفة تكمن في وجود انحيازات فكرية لا واعية يقوم الإنسان من خلالها بتكريس أفكاره المسبقة، في حال توفرت لديه معلومات مؤيدة وأخرى معارضة لتلك الأفكار.
والشبكة العالمية مجال خصب لتوفير تلك المعلومات المتضاربة، فهي ساحة مفتوحة لبث الأفكار المختلفة التي تنتجها ذوات مفكرة تتباين في مستوياتها وقدرتها على إنتاج المعرفة، وبالتالي، فإن الباحث على الشبكة سيجد حتما ما يتوافق مع أفكاره المسبقة، وهنا قد يقع في فك الانحياز التوكيدي، الذي يدفعه لتبني تلك الشواهد المؤيدة لأفكاره، دون إعمال الشواهد المعارضة لأفكاره المسبقة بالضرورة.
إضافة إلى الانحياز التوكيدي، يمتلك الإنسان نوعين من نظم التفكير، يسميهما عالم النفس الأمريكي دانييل كانيمان التفكير السريع والتفكير البطيء، فالتفكير السريع يطلق الأحكام عادةً بسرعة استنادا إلى الأفكار المسبقة والحدس، بينما وظيفة التفكير البطيء المفترضة هي إعادة تقييم مخرجات ذلك التفكير السريع.
في الماضي، كان البحث في الموسوعات والكتب الورقية من أجل الوصول إلى مصادر المعلومات يتطلب وقتا وجهدا، وبالتالي قد يتيح ذلك للإنسان فرصة تفعيل نظام التفكير البطيء أثناء البحث، أما في عصر تدفق المعلومات السريع الذي توفره محركات البحث على الشبكة، فإن الباحث يجد ما يدفعه للتفكير السريع أكثر، على نحو يجعل من البحث عن مصادر المعلومات مجرد بحث عن تبرير وتسويغ لمخرجات التفكير السريع المرتكز على الحدس.
خلاصة هذه المقدمة الطويلة، أن التعاطي مع فائض المعلومات عالية التدفق التي توفرها الشبكة، يتطلب وعيا خاصا بآليات اشتغال عملية التفكير لدى الإنسان، ويتطلب مهارات خاصة لا تزال غائبة عن مدارسنا وجامعاتنا، وهي مهارات ينبغي أن يزوّد بها الباحث أكثر من غيره، ليتعامل مع ظاهرة التدفق تلك، وأن الافتراض الذي يراهن عليه أولئك المتفائلون قد يؤدي إلى نتائج عكسية في الدور المناط بالبحوث بشكل خاص، وبمطلق توظيف المعلومة بشكل عام.
فتحديات الموارد الشحيحة للمعلومة أصبحت جزءا من الماضي، لكن التحديات المرتبطة بتوظيف المعلومات الفائضة، هي التي ينبغي الالتفات لها الآن.
المصدر: آراء سعودية.