إذا كبر أبوك خاويه – سلسلة خواطر متقاعد

في مسحٍ بسيط، سألتُ بعضَ الأصدقاء السؤالَ التالي: هل يرسل لك ابنك رسائل ودية، أو يتّصل ليطمئنّ عليك أو يستفيد من خبراتك؟ للأسف كانت أغلب الإجابات بالنفي، فلا رسائل ولا استفادة كبيرة. والأشدّ مرارة أن بعض الأبناء علاقتهم مع آبائهم في الحضيض. لا أنسى تلك الحادثة التي رأيت فيها ابنًا رفضَ السّلام على والده كبير السنّ أمام جمعٍ من الناس. وبالطبع بادله والدهُ بذات الكأس العلقم من البغضِ والكراهية!

في الواقع، لا يدرك الأبناء كم من الخبرة والدّراية والعاطفة يخسرون بعدم التواصل مع آبائهم والاستفادة من تجاربهم في الحياة، المتعثرة والناجحة. فعندما يكبر هؤلاء الآباء تكبر خزانتهم من التجارب الحياتية، في حل المشاكل الأسريّة والماليّة، وجملة معارف الحياة.

سوف يتمنون – هؤلاء الأولاد والبنات – أن تعود بهم سنواتُ العمر لكي يتجنبوا المواقفَ السلبيّة ومطبّات الحياة، التي كان بإمكانهم تحاشي الوقوع فيها بالدردشة والاستفادة من نصائحِ آبائهم. وأتمنى حين تأتي هذه الرّغبة والإدراك أن يكون في مقدورهم أن يحققوها ويجدون آبائهم أحياءَ وأصحّاء.

أظن أن لا صحّة اليوم لمن يتحدث عن الفجوةِ بين الأجيال، ويعطي عذرًا يغطّي عورةَ انقطاع التواصل، فلا أب – تقريبًا – أميّ غير مُطَّلِع على ما يكفي لإنشاء محادثةٍ عقلانيّة وإبداء رأيٍ مفيد. ولا عذر لمن يحكي عن عَصَاة الآباء التي تخيفه وترهبه من التحدّث معهم. رحم اللهُ آباءنا وأجدادنا، فتلك العَصَاة اختفت، والحبّ المفرط والدّلال الزائد هو السّمة السّائدة بين آباء اليوم.

من عيوب المدنيّة اختفاء عادات التواصل مثل الجلوس على مائدة الطعام معًا، على الأقل في وجبة الغداء أو العشاء، التي فُقدت في أغلب البيوت في وقتنا هذا. أتذكر أنه كان عندنا سفرة من خوص النخل نجلس حولها الأخوة والأب، لا يبدأ أحدٌ في الأكل قبل وصول الكلّ، وفّرت لنا وقتًا إضافيّا للتواصل وإن لم يكن كافيًا. الآن في بيوتنا طاولة طعام وكراس خشبية غالية الثمن، وكلنا يأكل فرادى وفي أوقاتٍ مختلفة!

بإمكاني أن أقول لأصدقائي: “إذا كبر ابنك خاويه” ليصبح رجلًا مستقيمًا. ويُمكنني أن أقول لأبنائهم: “إذا كبر أبوكم خاووه” واستفيدوا من عصارةِ حياته ورحيق تجاربه دون ثمن. كل هذا لا يعنى أنه ليس هناكَ آباء رائعون وأبناء يستحقون التّقدير والفخر بهم.



error: المحتوي محمي