في مرحلة غابرة من التاريخ، احتاج الإنسان لوجود جهاز ينظم شؤون حياته، فتم إنشاء الدولة لتكون كيانا مستقلا يتربع على قمة البناء الفوقي للمجتمع، وفي نفس الوقت أوجد لنفسه منظومة من القواعد والتشريعات أو ما نسميه اليوم القانون، ليكون أداة الدولة في تثبيت سلطتها وحمايتها من كل ما يهدد كينونتها وبقاءها حامية للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية السائدة.
ومن هذه المهام للمنظومة التشريعية ينبثق منع كل ما يمكن أن يشكل خرقا أو سعيا لتحوير هذه العلاقات، أو الدفع بها في توجه مصلحي مخالف أو يتعارض مع المصلحة التي تتبناها الدولة، وتعتبرها أساسا في السلم الاجتماعي، الذي بدونه لا يستديم بقاؤها، وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للسلطة السياسية ووفقا لعقيدتها السياسية أن تمنح المنظومة التشريعية دورا اجتماعيا، ككابح أو دافع نحو تحقيق تغييرات في مسار المجتمع أو حتى في شكل النظام السياسي.
وبين صفحات تاريخ الدولة والقانون نجد نماذج متعددة للمنظومات التشريعية التي صدرت في مراحل مختلفة من تاريخ أمم وشعوب القارات القديمة. ومن أشهر وأقدم تلك القوانين شريعة حمورابي «1792-1750 ق. م» التي صدرت إبان الدولة البابلية في بلاد ما بين النهرين، واحتوت على مجموعة من القوانين المنظمة للعلاقات المجتمعية وموقف الدولة حيالها.
وفي أثينا القديمة، التي كانت دولة رقية «قائمة على الرق» كالمملكة البابلية وغيرها من دول ما بين النهرين القديمة، كان القانون القائم على العرف السائد غير مدون، ومعرفته مقتصرة على مجموعة من القضاة الأرستقراطيين، وهو ما كان سببا لحالات من عدم الاستقرار والنزاع بين طبقتي النبلاء والعموم المتشكلة من الفلاحين الأحرار، ما دفع بالحكم في أثينا رغم معارضة القضاة إلى تبني مشروع تدوين هذه الشرائع وجعلها متاحة لجميع سكان أثينا من غير العبيد، فكان قانون دراكن الصادر في سنة 621 ق. م.
تغير نوعي في تاريخ القانون الأثيني، حيث تمت كتابة هذه القوانين في ألواح خشبية وعرضها للجمهور في الأماكن العامة وبقت محفوظة لقرنين من الزمان بعد كتابتها، إلا أن هذه القوانين كانت بالغة القسوة، ولم تلقَ الترحيب الكافي لدى طبقة العموم، ما أبقى حالة عدم الاستقرار قائمة، فكان أن لجأت أثينا إلى تعديل هذه القوانين عبر تكليف المفكر صوولن (549-572 ق.م) بقيادة السلطة السياسية وإصدار قوانين جديدة، التي عرفت بقانون صوولن الإصلاحي، حيث احتوت على مواد حظيت بقبول أغلبية سكان أثينا، واستمر العمل بها لمدة خمسة قرون لاحقة.
وفي دول جنوب الجزيرة العربية كانت المراسيم والأحكام القضائية تكتب بخط المسند «الحميري» على ألواح صخرية، تعرض في مدخل المدينة لكي يعلم الناس بها، ولكن مع الأسف لم يكن في هذه الألواح أو المنقوشات التي عثر عليها إلا جزء يسير من القوانين التي سنتها تلك الممالك التي عرفتها الجزيرة العربية قبل الإسلام، كما أن بعض هذه الألواح تعرض للتلف، ما أفقد من قيمتها الوثائقية.
من حسن حظ البشرية أن بعض هذه الشرائع لم تندثر وبقيت محفوظة، واستطاع علماء الآثار والخطوط القديمة كشف مضامينها وترجمتها إلى لغات العصر الحاضر، ما مكننا من التعرف عليها، وشكلت مدخلا للتعمق في دراسة تلك المجتمعات وسبر تفاصيل أوضاعها، وهذا يشمل معظم المجتمعات أو الدول القديمة التي دونت شرائعها وورثتها لنا، لنتعلم منها ونستعين بها في فهم منظومة حياتهم، فلولا ذلك لبقيت صفحات تاريخها بيضاء خاوية، واقتصرت على النزر اليسير من المعلومات، كما هو الحال لدى الشعوب التي لم تترك لنا إرثا مكتوبا.
كما لا يمكن التقليل من المنفعة التاريخية التي قدمتها بعض التشريعات القديمة في الاستعانة بها كأحد المصادر في صياغة قوانين متقدمة تاريخيا، كما هو الحال بالنسبة للقانون الروماني الذي شكل مصدرا من مصادر القانون المدني في أوروبا في مرحلة لاحقة من تطورها الاجتماعي والسياسي «مرحلة البرجوازية» فلولا ما قام به الإمبراطور البيزنطي جوستنيانوس الأول «527-565» خلال فترة حكمه من تعيين فريقا لتجميع القوانين التي عرفتها الإمبراطورية الرومانية في عهودها السابقة «قانون الاثنى عشر وقانون الشعوب» وتدوينها في وثائق سميت بـ«مجموعة القوانين والفتاوى المدنية» التي بقيت دون تلف حتى القرن الحادي عشر، لما كانت هناك المادة التي اعتُمد عليها حين صياغة مناهج أول كلية للقانون في أوروبا بجامعة بولونا الإيطالية، ليُدرس فيها القانون الروماني.
ومن المعروف أن القانون الروماني الذي يتميز بتركيزه على ملكية الأفراد الخاصة ومعاملاتهم التجارية والمالية، قد استعين به في صياغته بقوانين اليونانيين القدماء، عندما أرسلت روما وفدا إلى أثينا سنة 450 ق.م. ليدرس قوانينها المدونة، فوجدوها تلبي حاجتهم في الحفاظ على السلم الاجتماعي، الذي كان مهددا بالانهيار بسبب الصراعات الناجمة عن تغير الموازين بين مكونات المجتمع الروماني آنذاك.
ومن المهم التأكيد هنا على أن كلا المجتمعين الروماني والأثيني، كانا ينتميان لمنظومة إنتاجية واحدة «الرقية» ما سهل على الرومان اقتباس المواد المتسقة مع ظروفهم.
أما في المجتمعات البدائية والموغلة في القدم، التي لم تكن العلاقة بين أفرادها قد بلغت مستوى من التعقيد تقتضي وجود سلطة «دولة» لتنظيمها، فلم تكن هناك حاجة للقانون كتشريع تنظيمي، واكتفي بتشريع عشائري / قبلي ذي طبيعة أبوية، يستمد وجوده وفرض سلطته من الأعراف والتقاليد الشفوية، التي اعتمد عليها في تنظيم علاقات الأفراد بعضهم ببعض، أي أن القانون بحالته الوضعية، وبوجوده الموثق، لم يكن من خصائص المجتمع البدائي ولم يعرفه البدائيون ولا القبائل الرحل، وهذا ما يفسر ندرة بل وحتى غياب أي موروث من هذه المجتمعات ضمن قائمة المصادر التي اعتمد عليها في صياغة تنظيمات تشريعية للمجتمعات الحديثة.
وهذا ما سنتناوله في المقالة المقبلة.
المصدر: آراء سعودية