فن المفاوضات وتلطيف الأجواء الحوارية

لا يختلف اثنان على أن المعاملات البشرية المواجهة المباشرة من أصعب وأعقد أنواع وفنون التعامل وأرقاها، على الإطلاق، حيث يتألق في بهو أولويات نواصيها المشرقة؛ التفاوض الرسمي الموجه، والحوار الودي الثنائي.

وهناك الكثير من مواقف وجوانب قبول الأفكار ووجهات النظر المتباينة، وردها المطلق، جملة وتفصيلًا، أو قبولها المتدرج، على مضض، وصولًا إلى مرحلة متقدمة من القبول والتسليم الذاتيين.

هذا، وليست المواقف الحوارية الساخنة جلها تقاس جزافًا بمسبر زئبقي “قصير المدى” ذي مستودع زئبقي محدود، بحيث لا يسمح معياره القياسي المتدرج المسؤول عن قياس واحتواء درجات حرارة الموقف الحواري المتصاعدة المتطرفة، داخل “كبسولة” مستودع الامتداد الرأسي المعروف. فالمحاور الأريب اليقظ يجب أن يمسك بزمام المسبر الفاحص بحكمة ودراية، ملتزمًا بأدبيات الحوار المتحضرة؛ ليهيئ ويمهد أرضية البيئة الحوارية المرنة، ويحتضنها بفائق رفق، ويشملها بعظيم أريحية، الأمر الذي يكبح، بفاعلية عملية، جماح ارتفاع جزيئات الزئبق الساخنة المتعالية، بتسارع ملحوظ في مسار مستودعها الآمن، ويناط به أصالة المشاركة في مراقبة ناتج التعاظم المتأجج -عن كثب- على بسط إستراتيجيات المواقف التفاوضية الجادة، فعند مفترق منصاتها الساخنة تطرح بنود العصف المحوري، وتلقى وجهات النظر المتباينة، وتسود بوادر الإنصات الجيد، وتنبت بذور نوبات التصادم والتنافر المحتملة؛ لتتم مقايضتها طواعية، أولًا بأول، بفنيات المداراة المدروسة، واستبدالها بمبادرات الموازنة اللحظية، و”احترافية” الممارسة العريقة، هذا، وإذا كان المحاور النحرير الفطن من ذوي النخب الأكاديمية المثقفة الواعية، فتناط به المشاركة في إبداء وإسداء كفلين من المحافظة والمواكبة المترافقين على إبقاء وإذكاء درجة سخونة المواقف الحوارية المتجددة عند شفا تخوم جواد مخارم الحد الفاصل للأشواط الحوارية المحتدمة المتتالية، ليستطيع المحاور النشط بحكمته الفذة، وحنكته الصائبة من إحكام إمساك نصل العصا المرنة، من وسطها الآمن؛ لإحداث وإمداد ديمومة حالة حيادية مطلوبة من التوازن والتوافق الملحوظ، واستمرار متابعة المشاركة الفاعلة في تدعيم وتنظيم بيئة حوارية جاذبة؛ لاستنهاض واستعجال سير تقدم المفاوضات الحوارية بكامل معاييرها النمطية المثلى، حرصًا على عدم تسلل شفرات التخلخل الهادمة، وانفلات شظايا الانزلاق المتطرفة عن طرائق مساراتها المرسومة المعتادة، فلا تكاد ترى انسحابًا ظاهرًا، يعكر صفو “ميكانيكية” سير البنود الحوارية الساخنة في نسق مداولاتها المتدفقة، ولا تدرك نفورًا طارئًا، يحول دون بروز معطيات الاستجابات الوليدة من مكمن غمدها الآمن؛ ولا تتفاجأ، عبثًا، ببطئ تداول مخرجات الحوار النافذة لدى الطرفين المتحاورين؛ لتتنامى وتتسامى، في قمم أجوائها الساخنة، أصداء مداخلات ومداولات “التغذيات الراجعة” المكتسبة الراهنة تباعًا، ولا تلحظ دخانًا أهوجًا خانقًا، يطفئ جذوة اشتعال فتيل المناقشات المتصاهرة غيلة. أما فيما يخص أساليب “التلطيف” السانحة المريحة، وإبقاء فيض مفردات أبجدياتها المحمودة الظافرة، واضحة للعيان، فهي على حصير بساطتها الوادعة، ودبيب “مضاداتها الحيوية” الناجعة، مهمة مضنية صعبة، وعمل ريادي شاق، يحتاجان إلى صبر جميل، وأناة واسعة، وتؤدة مبصرة، لا تعرف التراخي ولا تدرك التواني، أنى التزم المتحاورون بتفعيل وتدويل مراميها الهادفة، وواكبوا على تدشين مقاصد نسائم التلطيف الجاذبة؛ لإتاحة وتتويج الفرصة الذهبية المؤاتية، لكل طرف محاور للتواصل الفعال، والرد المقنع، والتفنيد المبرر، والإدلاء بالرأي الصائب، والاستدلال المنطقي، وتفريغ شحنات الدفاع الحاضرة الماطرة في ناصية أذهان المتحاورين. ومن مقتضيات الحكمة الناصعة، ومتطلبات الخبرة البارعة أن يغتنم الطرف المحاور اليقظ، الأكثر وعيًا وحماسة، الفرصة المثلى السانحة، مجددًا، لترتيب وتشذيب تقنيات الإنصات الراقية، واتباع “إتيكيت” الحديث المتأدب، والنظر إلى وجه نظيره المحاور، وفي الأثناء، الظفر بقراءات تحليلية شاملة لمخرجات مداولات نظيره المتداولة السائدة في رواق قاعة البيئة الحوارية، لمختلف مخرجات فنيات التواصل المتاحة: اللفظية، وغير اللفظية المتعددة، كتعابير وقسمات الوجه، وحركات وإيماءات اليدين، وقراءات سديدة شاملة مماثلة لما وراء عصف إسقاط الأفكار التصويرية، ذات الصلة الوثيقة بمفردات الحوار، المطروحة، والمستحوذة، بإلحاح حائر، على ذهن المتحدث، وعندها يحلو المقام المضياف لقراءة متأنية حكيمة، ورؤية ثاقبة سديدة، وتكهن حدسي يقظ؛ لسبر طيات سخونة الأجواء الحوارية، من جديد!

عندئذ، لا مناص من تظافر وتتآزر انسيابية وتدفق سريان القبول المأمول، وانتشاء دبيب الإجماع المنتظر المشمول المتوج بأجندة وديباجة “صناعة الحوار”، بمزيد وافر من سخونة ودفء ذاتيين، يرقيان، باهتمام دافع، ويسعيان إلى تطلع مثمر على تعزيز وتقنين طيات الأريحية الذاتية السائدة، وتمكين شحنات الشفافية النشطة من النفوذ المسدد إلى أقاصي ثنايا سدة العقلية الحوارية المتداولة، وهنالك يتسنى، بلباقة ولياقة، سبر وقياس مستوى فنيات ومكتسبات لمسات التلطيف المواكب والسالك، معًا، ابتداءً من تألق لباب عبيرهما النضر في عنان سقف الأفق الحواري الرائق، قلبًا وقالبًا، للحيلولة دون كبح جماح ارتفاع مؤشر المسبر الزئبقي الفاحص ذاته، ودون أن تتعالى وتتنامى طفرات قراءاته الشاطحة المتطرفة، في نفق مستودع مساره الأفقي المنتصب؛ ولكي لا يحدث الخلل البائن، ويسود النفور المشتت، وتنبت القطيعة القاصمة، وتنطفئ ،بصمت وكبت، ثورة الحماقة والطيش الأهوجين. وتعود خيوط أطراف المناقشات العاصفة العقيمة، بألوانها البالية الباهته، إلى نهايات أطراف طريق مسدودة، لا تلوي على شيء يذكر، ولا تتكئ على كتف يؤجر، لتتقهقر بدفتيها، بوضوح شفاف كاشف، لا غبار يعلو سقفه، ولا عتمة تحجب دفة حراكها الحواري المتصلب، برمته، خائبة مخذولة، ساحبة بتصاغر ظاهر، أذيال الخيبة؛ وشاهرة، بخسران سافر، مكاسب الحوار الساخن المأمول؛ ومبدية ذهاب الريح، ونفاذ الحيلة، وضعف التدبير؛ لتذهب، مخرجات المناقشات المشلولة العقيمة، أدراج الرياح، وتبوء بالفشل الذريع، كما بدأت، وتعود متأبطة خفي حنين، وكأن حال ريع الجهد الضائع المبذول للطرفين المتحاورين (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا)، وبالله المستعان!



error: المحتوي محمي