ما أنت إلا ما يهمك، وما أنت فيه، وما أنت عليه فيما يصطفيه قلبك، ويختاره عقلك، ولا شيء آخر بعده، كأن الحياة الأولى هذه تأتي لتكون الذات الخالدة في سرمد الخلد للنشأة الثانية والحياة الخالدة بعد الموت.
الصورة الأخيرة للذات هي ذاك الجزاء الموعود، عما اكتسب، وما كان يصنع، وما كان عليه عاكفًا قلبه، وحاضرا فيه عقله طيلة الوقت أو أكثره.
أنت ما تفعل، وما تفعل هو أنت، فكل فعل منك يحمل السنخ والنوع، والجنس، والطبيعة الأخيرة التي أنت عليها، فالذي خبث لا يخرج إلا نكدا، والذي يطهر ويطيب ويعذب، يفيض منه الخير والعطاء الجميل، وعذوبة الري وفيضه حتى في جدار يريد أن ينقض فيقيمه لا يبتغي عليه أجرا، إلا قياما بحق يتيم في حضرة نفوس خسيسة الصفات، وضيعة الأفعال.
هذا طي لسنة تصرمت بما كنا فيها من فعل، وما كانت فيه قلوبنا من نجوى، بكل خير النفوس وضعفها أيضا، بكل الحسنات التي جعلتنا أجمل، وإلى الله أقرب، وبكل ذنوبنا التي باعدتنا عنه خطوة أو خطوتين أو ثلاثا وبعد هذا الطي الذي لا يسترد ولا يستعاض ولا ينال منه أكثر مما تم نيله، ولا يغرف منه أكثر مما غرف، فقد تمت خاتمتها، وانقضى من أعمارنا بمقدار أجلها، وهي بين ذخيرة مدخرة، أو مرارة قضم الحصرم الذي لم يكتمل نضجه، فكل جني يناله مَن سعى، ويصيب منه من تعب.
كل واحد منا، بوسعه الآن أن يرى ذاته بالصورة التي سيحضر بها بين يدي الله إن لم يغمره ربه بغمامة من رحمته ونثار من رأفته وفيض بره، يكفي لترى ذاتك أن تسترد ما كنت فيه أكثر وقتك، وما غلب عليك من اهتمام العقل، والقلب، والشعور. هنالك تتم عليك صورتك، وعندها تتشكل حقيقتك. وهي هذا المزيج الأخير من الصفات والأفعال والشعور.
“تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين” أرأيت ما أرى، إن الإرادة النفسية للاستعلاء بالباطل، والفساد بإطلاقه، وعموم أصنافه، وتعدد أنواعه، يشكل جزءا من العقوبة عليهم، وبسببها، وسببهما لا يكون لأهلهما نصيب في الآخرة، ولا قربى من رحمة الله الواسعة.
الآن بعد سنة خلت، وبعد هذا التصور، حين تأتي إليك عبارة: كل عام وأنت بخير لانقضاء السنة الميلادية، عد إلى تأمل الصورة لذاتك التي كنت عليها، ولأفعالك التي كانت منك عد متريثا لقلبك تأمل ما تبقى فيه، واحسب ما خرج منه، وعد فيما تعد تلك الخطوات التي قربتك، وتلك التي أبعدتك، وتلك التي أظلمتك وطمست باطنك، وتلك التي أنارت وأحيت وأبقت فيك النور الذي تعيش به بين ظلمة الناس ووحشة الخلق.
جرد الحساب، هو جمع الشتات، وتكوين الوعي، بخاتمة الطي الأخير الذي يتكون من نسيج ساعات الأيام، ونثار الشهور، وعبور سنين لا مسترد لها، ولا راد عما تحملنا إليه.
تتكون الصور وتتمحص النفوس، وتبتلى القلوب، وفي لحظة أخيرة يكون التمام كله عنده وبين يديه، وهذه سنة جديدة تذكرنا أن لكل قلب منتهاه فيما يصطفي ويختار.
الاقتصادية