الدنيا تسوى ونصف – سلسلة خواطر متقاعد

كم نسمع أن الدنيا لا تستاهل، والدنيا ليس فيها خير، واترك الدنيا عنك! إذا تركناها فلمن نتركها؟ ولماذا نتركها؟ وهي في الأصل مخلوقة لنا ومن أجلنا. وإذا كانت هذه الأقوال من باب الترغيب في الزهد والتقشف كيف نجعل الزهد قوةً دافعة وليس قوةً معطلة؟

لعلّ الموطن الوحيد في القرآن الكريم الذي ذكرت فيه كلمة الزهد أو الزاهدين هو في قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾: يوسف (٢٠)، لكنه ذكر في الأحاديث والتراث الديني والفلسفي بكثرة. وفي هذه الآية يقصّ اللهُ مدى رغبة السيارة المارّة على طريق البئر الذي وجدوا فيه يوسف (ع) في شرائه بثمن قليل لأنهم أرادوا التخلصّ منه بسرعة، والحصول على ثمنه بأيّ مقدار كان، خوفًا من أن يكتشفهم أهله ويَأخذوه منهم قبل أن يبيعوه ويَقبضوا ثمنه.

أما في الاستعمال العام للفظ فهو: زهِدَ في الشَّيء: أعرضَ عنه وتركه، وبالتالي الإعراض عن متاع الدنيا وطيِّباتها خوفًا من الحساب أو العقاب. فهل ليس في هذا المفهوم من الزهد دعوة لجَعله قوةً معطّلة من حيث ترك الرغبة في إعمارِ الكون والاستمتاع بما أودعه الله فيه من طيّبات، هي في الأصل مخلوقة من أجلِ الإنسان – وحده – من بين المخلوقات؟

الزهد في الدنيا قوة دافعة عندما لا يكون دعوةً للانعزال عن الحياة وهجران ملذّات الحياة المباحة. ويكون هجرًا وزهدًا في المحرّمات وإيثار الغير – المحتاج – بما نملك ومشاركته المحتاجين. وأن يستثمر الإنسانُ طاقاته في إعمارِ الأرض والانتفاع بخيراتها المسموحة في حدود الاعتدال، لا إفراط ولا تفريط.

ليس حرامًا أن يأكل الإنسان ويلبس ويسكن ويتنقل ويتمتع فيما خوله اللهُ بالتصرّف فيه بحق، كما ليس له تعطيل قواه عن العمل والتكاسل عن طلب الرزق والمشاركة في دفع حركة الإعمار والتقدم نحو الأمام وتحمل المسؤولية في ذلك.

ليس الزهد صفة ممدوحة بالمطلق، ولا مذمومة بالمطلق! فهو فضيلة بما يستتبعه من قدرة السيطرة على الرغبة الجامحة التي تضطر صاحبها للظلم واستجلاب الثروة غير المشروعة وفعل المعاصي والذوبان في الشهوات. ومذمّة بما يستتبعه من مفهوم تعطيل القوة والرغبة المباحة دون حاجة لذلك. أليس الله تعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}: الأعراف (٣٢).

الترك الممدوح لما في الدنيا يعني عدم التعلّق الزائف به وحينئذٍ يكون عائقًا وعقبة أمام وصول الإنسان بسلام إلى محطة الآخرة واستحقاق العذاب من الله. وإلا فالأصل: اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدًا. وكذلك: إن قامت الساعةُ وفي يدِ أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها.

الزهد قوةٌ دافعة نحو العلم والاعتدال والعمل الجّاد والبناء بما يتوافق مع الحضارة وتكليف البشر بالقيام بعمارة الأرض. وليس دعوة من أجل ترك الدنيا وإهمالها معطّلة حتى يأتي غيرنا ويستفيد من خزائنها ويبني فوقها حضارة، ونحن ننتظر ونتفرج مكتوفة أيدينا ومكفوفة أبصارنا.



error: المحتوي محمي