الإمام الكاظم (ع) ذلك العبد الصالح

من تلك الألقاب التي أطلقت على الإمام الكاظم هو العبد الصالح، وفي ذلك إشارة لما وصل إليه من قمة القرب من الله تعالى وإخضاع الإرادة والوجدان لما يرضيه تعالى، وليس هناك من طريق لتربية النفس وتهذيب السلوك وبعث الهمة العالية نحو تحقيق غايات الكمال والإنجاز كسيرة العظماء، حينما نضعها أمام مرأى العين ونصب الاهتمام والتأمل فيها.

ومن تلك الشخصيات العظيمة التي تأخذ بالأيادي نحو السمو والعلياء على مستوى جميع الأصعدة شخصية وسيرة الإمام موسى الكاظم (ع)، والذي يعد مجمعاً لكل الفضائل والصفات الحميدة لمن أحب أن يسير نحو النهج الأقوم، فقد امتلك مقومات التقوى والخشية من الله تعالى والنزاهة النفسية أمام كل مغريات الدنيا، فكان ذلك العبد الصالح الذي لا هم له سوى رضا المعبود والتقرب منه في كل حركاته وسكناته.

فالعبودية المطلقة في سيرة الإمام الكاظم لا تقتصر على مجرد الصلاة والصوم وبقية العبادات بصورتها الخاوية من المضامين العالية، بل كانت عبادته تحقق الهدف الإلهي من الطاعات، وهو التحلي بالورع عن محارم الله تعالى والخوف من الوقوع في المخالفات ومحاربة الأهواء النفسية في علاقته بربه والناس، فصلاته (ع) هي الباعث نحو الحلم والحياء والزهد والخلق الرفيع، وصومه يتسامى بالوجدان نحو الترفع عن حطام الدنيا الزائل والشعور بمعاناة الفقراء من ألم الجوع وحاجاتهم وتلمسهم لنيل حياة كريمة.

وهكذا كان (ع) عابداً لله تعالى في كل مقومات حياته بمعنى أنه يضع نصب عينيه رضا المعبود في كل كلمة ينطق بها أو أي موقف وتصرف يتخذه، وهكذا يفهمنا الإمام الكاظم (ع) مفهوم العبادة بمعنى محاسبة النفس والرقابة على الجوارح تجنباً للوقوع في مخالفة إرادة المولى عز وجل، والعبادة جوهر مكنون يتحصل على لآلئه من انفتح بقلبه وفكره على جوهره المكنون عارفاً بحق وعظمة الله تعالى، فإن العبادة الواعية زاد وعامل نشاط ومصدر أمل وعزة وقوة في الحياة، إذ يشعر المرء بالطمأنينة والاستظلال بالعزة الإلهية فلا يأبه بشيء من عوامل الخوف والقلق في الحياة.

وهكذا عبادة تصنع الشخصية المهابة والحكيمة والتي يمكنها أن تنطلق في الساحة الفكرية والسلوكية بهمة عالية، وهكذا كانت سيرة الإمام الكاظم (ع) في جميع جوانب حياته التي اتسمت بالفاعلية والعمل الدؤوب دون مبالاة بالظروف القاسية والعقبات، فقد حمل هم رسالة التبليغ والتوجيه كإحدى أهم مهام الإمامة والولاية، فعمل على نشر المعارف الإلهية وأحكام الشرع الحنيف منطلقاً من منبر جده رسول الله (ص) دونما كلل أو ملل، حتى شهد له علماء زمانه بأنه لم يكن له نظير في سعة العلم والهمة العالية في بثه إلا آباؤه الطاهرون (ع)، وهذا ما ظهر من كثرة تلاميذه وما دون من مواعظ بليغة وحكم واردة عنه تحتاج إلا تسليط أدوات البحث والدراسة عليها لتكون منارا في الساحة المعرفية.

كما انصب اهتمامه على الاهتمام باستقامة أحوال الناس وصلاح المجتمع، من خلال العمل على متابعة الظواهر الانحرافية معرفياً وسلوكياً والعمل على تقويمها ومعالجتها، وهذا ما يظهر لمن يتصفح جوانب من سيرته الغراء في مواجهة الانحراف بحكمة وسعة بال، وهذا ما يدعو من يتخذه (ع) منهاجاً أن يتحلى بالصبر والنظر في العواقب دون الانجرار للتفاعلات الآنية الحادة في مواجهة الفساد والانحلال الأخلاقي، والتي يكون لها نتائج وخيمة وتشكل باب تعقيد للمشاكل والأزمات وليس حلها.

سيرة الإمام الأخلاقية والتربوية والتعامل مع الناس يمكن اختزالها بحلة ذهبية بما لقب به وهو كاظم الغيظ، فكل تلك الظروف القاهرة والمؤلمة التي عاشها الإمام الكاظم (ع) لم تثنه عن طريق الدعوة للحق والهدى والفضيلة، بل كان تلك القامة الشامخة التي يعترف الجميع بجمال روحها وصفاتها، ولم تنكسر إرادته يوماً ليكون مشعل هداية للمؤمنين في التحلي بالأمل والهمة العالية في مجابهة ما يواجهونه من ظروف وعقبات.



error: المحتوي محمي