وجه من الوجوه التي تملك إحساساً صادقاً، بصعوبة تسمع صوته في قمة المتواضعين المحنكين الزاهدين، وجه قريب من عالمنا هو الجد هو الأب هو الأخ هو العم هو الخال هو الصديق هو الوجه القطيفي المألوف “الأصلي” العفوي أمامك بكل تفاصيله الطاهرة.
يسعدني كثيراً أنني قد فتحت عيني ووعيت على ذاك الزمن الجميل ورونقه ومشاهدة تلك الشخصيات التقية النقية وعمق طيبها الاجتماعي، حيث انغرس في وجداننا نحن صبيان تلك الفترة مشهد دكان “الحجي” كما تسميه الأكثرية، ومن يرتاده من شخصيات طيبة ومتدينة يسومها الأخلاق الحميدة.
القديح وتحديداً في حي السدرة، أحد الأحياء التي اشتهرت بالمسجد المسمى السدرة، وعين جوفية تعرف بالسدرة ومجموعة من المحلات الصغيرة نسبياً، يحد هذا الحي شرقاً الوادي وجنوباً حسينية الناصر وغرباً دالية الشويكي وشمالاً حسينية الجنبي.
ومن بين تلك المحلات التي لم تمحَ من ذاكرتي محل لشخصية الرجل الصالح المؤمن الحاج عبد النبي علي المسباح، عندما كنت صبياً أذهب إليه في دكانه المتواضع الذي لم يقتصر على البيع فقط، فقد كان له دور كبير في تربية الأجيال، فالشخصيات التي تلازمه ذات هيبة ورجال مؤمنين بمثابة المدرسين، والدكاكين رغم صغرها قديماً إلا أنها تعتبر بمثابة المدارس.
دكانه مساحته ضيقة وصغيرة بالكاد يستطيع الفرد الدخول إلا أنه يفي بحاجة الجالس قبل المشتري، فالجالسون لديهم كراسي خشبية مبطنة بالإسفنج ومخاطة بالجلد، محايدة لبعضها البعض تقريباً خمسه، ما زال هذا المنظر يلازمني رغم تقلبات الزمن، لأنه يذكرني بأجمل أيام وهي طفولتي التي أشتري من “الحجي” شعيراً لحمامي الذي أعشق، والذكر بالذكر يقال: كان يملأ الكيس (كرماً منه) بعكس غيره من الباعة لا يكفي ليومين.
كان دكانه مجلساً بمثابة الدار الاجتماعية الدينية والثقافية الأدبية، فقد كان يستضيف ثلة من خيرة الأهالي، حيث تكمن المجالسة بفنجان قهوة وكوب شاي، وأكثر ما يدور الحديث بالحوارات والنقاشات المفيدة بدلاً من “البذخ” كان هناك غذاء روح “العلم”.
ولأن القديح لها وجه واحد منذ تكوينها الجغرافي بأنها تمتاز بكثرة المزارع وتحيطها النخيل من كل الجهات كالعقد على جيد الفتاة، وأن لها تاريخاً حضارياً بالفطرة يسومه التعايش والتفاهم ويفوقه المودة بين الناس (طيبة أهلها).
وعندما نريد الدخول لرجالات القديح فلا بد من الوقوف أمام هذا العبد الصالح “الحجي”، الذي ذكره الوالد حفظه الله الخطيب محمد علي بن الملا حسن آل ناصر في كتاب “وهج الإيمان” هو الرجل الصالح التقي الحاج عبد النبي بن الحاج علي بن الحاج محمد بن الحاج مسباح القديحي القطيفي، فهذا الإنسان التي حملت هذه الذكرى الحديث عنه عاش في بلدته (القديح) معروفاً بصلاح نفسه وإصلاحه لمجتمعه مشهوراً بالتقى وجليل الأفعال، حتى عرف بين القديح باسم الحجي (الحاج).
ولد رحمه الله بمدينة (القديح) سنة 1328هـ، وتوفي بها ليلة الأحد الموافق الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 1414هـ، قرأ القرآن الكريم وأتقن الخط والقراءة وشطراً من النحو على:
1- الأديب الشاعر السيد علي الخضراوي، المتوفى سنة 1352هـ.
2- الخطيب الفاضل الحاج ملا حسن بن ربيع، المتوفى 1362هـ.
كان رحمه الله وقوراً مهاباً ومؤمناً يقضي أكثر أوقاته في طاعة الله تعالى، وقد حدثني من أثق به من أنه لم يترك صلاة الليل حتى أيامه الأخيرة التي غادر فيها الدنيا، له من الآثار “كشكول لا يزال مخطوطاً” وديوان شعر بالفصحى والدارجة كلها في مدح ورثاء أهل البيت عليهم السلام، وإن أردت الاطلاع والزيادة فراجع كتاب “وهج الايمان” للوالد الخطيب محمد علي بن الملا حسن آل ناصر.
شخصية “الحجي” منعكسة بشكل أو بآخر على من عاصره أو على البيئة الدينية والثقافية والاجتماعية، حيث عرف بمراحل النصح والإرشاد والإصلاح، ودائماً وأبداً يمثل كل الأبعاد لخدمة الناس، يشهد له التاريخ بأنه شديد الاعتزاز بطاعة ربه ولا يخشى في الله لومة لائم، وهذا الشيء الذي ليس عليه غبار بأن النسك العبادية هي من أولوياته وأسس حياته.
يعتبر أول من أضاف للحركة الثقافية الأدبية بالقطيف وخاصة القديح، ومساهماته وما قدم لخدمة الثقافة والأدب، وذلك من خلال دوره البناء والمشهود في العلم والتعليم والسؤال والإجابة عن المسائل ، وكما كانت له صلة كبيرة مع علماء عصره، وقد ولي على وكالة لبعضهم، وكما ذكرت لكم سابقاً بأن دكانه وإن كان بسيطاً ومساحته متواضعة إلا أنه كان يرتاده المؤمنون والمتعلمون والمثقفون في تلك الفترة التي تتعطش لروح ووهج التعليم.
ومن شعره قوله في رثاء الحسين “عليه السلام”:
بنفسيَ أطفال الرسالة أصبحت *** إلى السبط تشكو من لهيب ظماها
فثارت لنصر الدين أكرم عصبة *** براها إله العرش ثم حباها
تراهم كأمثال البدور زواهراً *** أزال ظلام الشرك نور ضياها
وأورت بحرب نار حرب وصيرت *** لها حطباً جزلاً جسوم عداها
رووا منهُمُ يوماً عبوساً أهالهم *** وضاق بهم يوماً وسيع فضاها
فلمّا أراد اللّه إنفاذ أمره *** هوت سجّداً صرعى بحرّ رباها
مضوا لجنان الخلد والسبط بعدهم *** بقي بين أعداء تشبّ لظاها
وتجد القصيدة كاملة في ديوانه.
“الحجي” رحمه الله رحمة الأبرار، كان شعله من الإيمان كان رمزاً لجيل تلك الحقبة، فقد ترك أثراً على أفكار جيله وجيل ما بعده وما زال محفوراً في ذاكرة القطيف، وأحمد الله أنني من الشباب الذين رأوه وعاصروه في سنوات عمري.
إن مثل هذه الشخصيات المؤمنة رغم تعب ومصائب وشقاء معيشتهم، إلا أنهم باقون بنجاحاتهم وتحدياتهم وذكرياتهم العامرة بإعلاء ذكر الله وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.