أمير المؤمنين السمو والعلياء

لا يجود التاريخ البشري بنماذج كثيرة من أولئك الذين بلغوا أعلى درجات الكمال الإنساني فكانوا آية المجد والسمو الروحي والأخلاقي، إذ أن سيرة هؤلاء العظماء مبعث للفخر والتحفيز على السير على هداهم ونهجهم، فقد رسموا بخطاهم الإنسانية أجمل الصفحات المشرقة في المنطق الحكيم والسلوك المتميز بالاستقامة والنزاهة، فعقولهم النيرة نضحت بما يثير الإكبار والإعظام لما ينسجونه من مضامين عالية تسكب في عبارات وأساليب تمازج الذوق والنفس في إطار بلاغي جميل، فكيف إذا كان الحديث عن أمير البلغاء وسيد المتكلمين وهو أمير المؤمنين (ع)، والذي جاء في نهجه البليغ (نهج البلاغة) بما يحتاج إلى تظافر العقول والأقلام لتنهل من معينه العذب، وتثري الساحة المعرفية والثقافية والفكرية تلك الأنوار العلمية التي سطرها وتحتاج إلى التوسط على مائدتها وإعطائها المزيد من الدراسات والبحوث.

إن أمير المؤمنين (ع) نفحة ربانية ومشعل هدى يسير خلفها من أراد علياء النفس وتجسيد الخلق الرفيع والفكر الواعي الرشيد، والمجتهدون الراشدون هم من تمسكوا بطرف من سيرته وفهموا مسارها ومعناها واتخذوها نموذجًا يحاكون به الواقع ليتخذوا الخطوات و القرارات المناسبة، وقبسًا يرسمون به الأهداف المنشودة في ميدان الإرادة الجادة الفاعلة والهمم العالية في عالم الإنجاز، فالمعنى الحقيقي لحبه والتقدير لشخصيته المفعمة بالمعرفة والجود والشجاعة والحكمة هو الاقتباس والتناول من هذه اللآلئ، فالانسجام الفكري والسلوكي مع نهجه القويم يعني سيرًا حثيثًا على خطى التنوير والنضج متخليًا المرء عن كل ما يشغله ويلهيه من الأحاديث التي لا نفع بها، والتي – للأسف – تعج بها بعض المجالس ومواقع التواصل والتي صرفت الأبصار عن اغتنام جزء من أوقاتنا للتعرف على هذه السيرة العطرة، كما أن ميدان العمل الحثيث لا يقوم على الأمنيات والخيالات الحالمة، بل نحتاج إلى ثقافة تحريك القوى والمهارات ووضعها تحت تصرف الإرادة القوية لتخطي الحواجز والعقبات والتنقل في ميادين الإنجاز من مرحلة إلى أخرى.

رسالة أمير المؤمنين (ع) في هذه الحياة العمل على اقتلاع جذور الجهل وإحداث حركة علمية وتثقيفية تقود الفرد والمجتمع نحو رشده وألقه، فالأعمار ميدان البحث والتعلم والاستنتاج وإصباغ الفكر بالوعي والفهم مترقيًا من درجة ومستوى إلى آخر، وميدان عمل الإمام علي (ع) إحلال وإرساء معالم العدالة على جميع مستويات الحياة، فعلى مستوى العلاقات الاجتماعية و الأسرية ليس هناك من ظلم وفساد أكبر من التعدي على حقوق الآخرين معنويًا وماديًا بأي شكل من الأشكال، فالشهوات والأهواء تقود المرء للانزلاق نحو الطمع والجشع والاستيلاء غصبًا على ممتلكات الغير.

أمير المؤمنين (ع) شمس العدالة والمعرفة والشجاعة والعطاء والحكمة، وكل تلك المحاولات المستميتة لإخفاء جوهر هذه الحقيقة، لم تستطع أن تحقق شيئًا وإنما هي كالغيوم سرعان ما تنقشع وتبان شمس الحقيقة، فجوهره الثمين تنجذب إلى أنواره ومعالمه وتهفو إليه، فعلي (ع) بقاؤه في النفوس خارج إطار العامل الزماني والمكاني ولا يندثر أبدًا، فأنى للنفوس المتطلعة للتكامل النفسي والأخلاقي والمعرفي من زاد تغترف منه كشخصية جامعة للفضائل والمكارم كأمير المؤمنين (ع)، والذي كانت حياته تجسيدًا للمثل وترسيخًا للقيم الأخلاقية، وكان منهاجًا علميًا وهاجًا لا يجارى ولا يظمأ معرفيًا من سأله وسمع منه، وعمل (ع) جاهدًا من أجل إصلاح المجتمع وإنهاء المظاهر والحالات الانحرافية فكرًا وسلوكًا، ووظف جهده ووقته (ع) من أجل استظهار الطاقات وتوظيفها في طريق العمل المثابر.



error: المحتوي محمي