تعود قصتي مع القرآن الكريم، إلى أكثر من عشرة أعوام!
شهر رجب الأصب الذي تصب فيه الرحمات الإلهية صبًا، كما ورد في الروايات الشريفة، كان محطتي الأولى مع القرآن الكريم، حيث إن شهر رجب المبارك، بداية التباشير الإلهية، والتهيئة الروحانية لشهر رمضان المبارك، من خلال العبادات المختلفة، وعلى رأس تلك العبادات، كثرة الاستغفار، والعمرة الرجبية، وتلاوة القرآن الكريم، والصيام فيه، حيث يكثر استحباب الصيام في شهري رجب وشعبان المباركين، حسب النصوص الواردة عن طريق مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ويزداد الثواب والأجر فيهما، ويعظم الثواب أكثر، عندما تصل هذا الصيام بشهر رمضان المبارك، وهو شهر الله الأعظم.
وفي شهر رجب كانت بداية علاقتي بالقرآن الكريم، واكتشافي بعضًا من هذه المفاهيم القرآنية المباركة، إذ يعد شهر رجب، بالنسبة لي الصديق الحميم، والفاتحة الرحمانية الإلهية عليّ.
لا أظن أن هناك أحدًا من المسلمين، لا يتلو القرآن الكريم يوميًا، ولو السور القصيرة،
فنادرًا ما نجد أحدًا يصرف النظر عن تلاوة كتاب الله، إلا من شذ عن قاعدة المسلمين، من عدم رغبته بقراءة القرآن الكريم، تحت مبررات واهمة، تجعله يهجر كتاب الله، فيهجره الله ولا ينظر إليه.
بحمد الله منذ زمن بعيد، وأنا أتلو كتاب الله بشكل يومي، وخاصة بعد صلاة الفجر، حيث إن هذا الوقت بالتحديد، تشهد فيه ملائكة الليل وملائكة النهار، لمن يتلو القرآن الكريم، وكما تعودت على تلاوة القرآن الكريم بالطريقة الجهرية، حيث الآخر يستمع لما أتلوه، وكانت هي عادتي وأحببتها، حيث أشعر فيها بنوع من الروحانية والخشوع، وأجد حالة من التفكر والتدبر في المعاني والآيات القرآنية فتكون لي أكثر وضوحًا وفهمًا.
وفي يوم من الأيام، وأنا في أحد بيوت الله، ويدعى مسجد الرفعة، الواقع في حي الديرة، وكما هي العادة، قبل الشروع في صلاة الظهرين، بإمامة العلامة سماحة الشيخ فوزي آل سيف، أتبارك بشيء من بعض آيات الرحمٰن، فأبدأ بالتلاوة حتى وصول إمام الجماعة، ومن حسن حظي، في ذلك اليوم كان أحد الآباء يجلس بالقرب مني، فكان كبيرًا في السن، وكان أحد رواد المسجد، وهو المرحوم الحاج حسن آل مطر، رحمه الله، عندها شعر كما أنا شعرت، بالارتياح النفسي، بذكر الله وفي بيت الله وتلاوة كتاب الله، فكنت أنا القارئ وهو المستمع، فقال تفضل يا والدي، اقرأ ودعنا نتبرك بكتاب الله وبتلاوتكم المباركة، تبسمت ابتسامة خجولة، وقلت له إن شاء الله.
وعند بدء تحريك لساني بالبسملة المباركة، نظرت للحاج المرحوم أبي علي آل مطر، وهو في غاية التركيز، تعجبت في البداية، ولكن تذكرت هي عادة آبائنا توقيرهم لكتاب الله، وهذا بالفعل يُعتبر نوعًا من الآداب القرآنية، ومن ضمن أمور التهيئة النفسية للاستماع والإنصات لكتاب الله.
وعند بداية تلاوتي للآيات الأولى المباركة، وجدته فورًا يصحح لي قراءتي، بطريقة تجويدية، أي إعطاء الآية حقها كاملًا، أي تطبيق أحكام التجويد عليها، بحيث تكون تلاوة صحيحة ومجوّدة، كأحكام المدود، بعدد الحركات، حسب نوع المد، كما هو موضح في المنهج التجويدي للقرآن الكريم، وتطبيق بقية الأحكام، كالإخفاء والإدغامات وهمزة الوصل والإقلاب، والوقفات، وآيات السكت والقلقلة، وغيرها، مما هو في علم التجويد، وفق رواية حفص عن عاصم، وهي أشهر القراءات السبع، التي اعتمدتها المملكة العربية السعودية، وغالب الدول الإسلامية.
في تلك الفترة، لم أكن ملمًا إلمامًا شاملًا بهذا العلم، أو بالخبرة الشاملة بعلم التجويد، إلا ما نذر، مما تعلمناه في صغرنا في المدرسة.
وبعد التصديق، التفتُّ للمرحوم أبي علي، وأنا مندهش، شكرته في البداية، بعدها توجهت له بالسؤال: كيف تعلمت القراءة بما تحويه الآية الكريمة من تجويد وأنت لم ترها، وتصحح لي بثقة منقطعة النظير، وأين تعلمت قراءة القرآن الكريم مجودًا؟
فكان رده أيضًا مفاجئًا لي نوعًا ما، حيث أجاب عن الجزء الأول من السؤال، حيث قال تعودت طوال هذا العمر، على تكرار الاستماع إلى القرآن الكريم، من عدة قرّاء من أهالي المنطقة، حيث كان عمر المرحوم في تلك الفترة يبلغ السبعين عامًا، وما زال الكلام عند أبي علي، غير أني أقرأ القرآن الكريم يوميًا، وأجابني عن الجزء الثاني، أما بخصوص أين تعلمت تلاوة القرآن الكريم، فأكيد في مجالس الإمام الحسين عليه السلام، حيث منذ كنا صغارًا، ونحن نحضر مجالس أبي عبدالله الحسين (ع)، وتلاوة القرآن الكريم، كما تعلم يا والدي، مستمرة طوال السنة فيها.
فكانت هذه الحادثة المباركة، هي المحرك والدافع الرئسي لي، أن تعلم كيفية القراءة الصحيحة والمجوّدة، عندها اقترحت على أحد الأصدقاء الأعزاء، فكرة الالتحاق بدورة قرآنية لأجل هذا الهدف، وفورًا وافقني الرأي، وهو الصديق العزيز فهد العوبلة، عندها التحقنا بدورة في مركز بيت القرآن الكريم، المعروف حاليًا بالذكر الحكيم، الواقع في جزيرة تاروت، حي الحوامي، وهو تحت إدارة ومظلة جمعية تاروت الخيرية، حيث يُعتبر أحد أجنحة الجمعية.
والدورة كانت عبارة عن فصلين دراسيين، كل فصل أربعة شهور، يتخلله اختباران نهاية الدورة، نظري وعملي، وكان المركز القرآني، يتمتع بأساتذة على مستوى عالٍ جدًا في الدراسات القرآنية، كمثال المهندس والأستاذ المبدع محمد الكزاز، وهو مختص بتدريس المستويات العليا، والأستاذين المبدعين حسن العقيلي، والسيد محسن أبو الرحي، وكانا هما المشرفان على دورتنا القرآنية.
وبعد هذه الدورة القرآنية المباركة، وجدت تحسنًا وفارقًا كبيرًا جدًا في قراءتي، وأصبح سمعي عند التلاوة القرآنية، أكثر تركيزًا، وهذا أيضًا بدوره ساعدني، على تصحيح التلاوة السمعية، وبعدها أصبحت أشارك في عدة حلقات قرآنية تصحيحية، وكنت أحرص على ألا تفوتني أي جلسة قرآنية، خاصة أنها كانت تحت إشراف أستاذنا المبدع محمد الكزاز، وهذا بحد ذاته فرصة ذهبية، أن تكون واحدًا من ضمن حلقة قرآنية، يشرف عليها محمد الكزاز، وهو يُعد واحدًا من الذين أنجزوا مستويات عليا في العلوم القرآنية.
وكذلك وُفّقت بحضور دورة قرآنية أخرى، في حوزة القطيف الواقعة في الناصرة، لمدة ثلاثة شهور، بعنوان منهاج التدبر والتفسير القرآني، بإشراف المختص في العلوم القرآنية سماحة الشيخ الدكتور محمد الخميس، وكانت دورة ممتعة ورائعة، بل تُعد مكملة ومساعدة لفهم القرآن الكريم، كما وفقنا بعد ذلك، بحضور دورة في اللغة العربية، مع سماحة الشيخ والروائي المبدع منصور آل سيف.
كما أعتقد هبوط هذه النفحات المباركة عليّ، في شهر رجب المبارك، من توجهي لكتاب الله، ومن ثم ما تفضل به عليّ، المرحوم الحاج حسن آل مطر رحمه الله، من تصحيح في قراءتي، وكان يقصد بذلك الأجر والثواب من عند الله سبحانه وتعالى، وقد ورد عن الرسول المصطفى (ص) أنه قال: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”.