على مر الأجيال، وتغير الأحوال، رأينا كيف تسبب الإنسان في إفساد صحته التي هي أغلى ما يمتلكه في حياته؛ لأنها مرتبطة ببقائه ووجوده، وجلب لنفسه مخاطر ومشاكل عديدة لم يقدر على تحملها، من جراء السموم التي أفرزتها تقنيات هذا القرن بصور شتى، فقد عرف جيلنا الحالي أمراضاً وأوبئة لم تكن معروفة من قبل، هذا ما دفعنا لتلمس ما أحدثته التقنيات الحديثة في أغذيتنا، ونفتح آفاقاً جديدة في إنتاج الأطعمة من مصادرها الطبيعية دون استخدام المخلفات الكيميائية، والعودة إلى مستوى الصحة التي كان الشخص يتمتع بها أيام زمان، صحة مثالية تزيد من السعادة، ومن قدرة الجسم على الشفاء.
التغير في العادات وطريقة التعامل مع الغذاء؛ أفقدتنا لقيمات طالما ألفناها، وصحون فُطمنا على نكهتها وشببنا على رائحتها، لقد تبدَّل كل شيء حول الغذاء، دخلت على موائدنا متشابكات العلوم والتقنيات، فصالت وجالت في أسرار أجسامنا وترسبت في أمعائنا، وعاثت بصحتنا، وما كان لنا خيار فيما يحدث؛ لكن هل تغيَّر كل شيء إلى الأبد؟ هل هو طريق بلا رجعة؟
لنرجع قليلاً إلى الوراء لنرَ كيف وصلنا ما نطلق عليه اسم ” الأغذية العضوية” والصحوة باتجاه العلاج بالأعشاب كلما أمكن، هي محاولة إرجاع الناس إلى الأغذية الحية المجددة للجسم والمقوية له، العودة إلى الغذاء الطبيعي في صورته الأفضل الذي يعطي الصحة الكاملة، بعد أن حادت بهم الشهوة إلى شكل ولذة الأطعمة التي دفعت بها الأفكار التقنية الحديثة، وما أثير حولها من الدور الخفي الذي تلعبه المضافات الكيميائية التي أوجدت أمراضاً لم تكن معروفة أو منتشرة أيام الأجداد.
لن نأتي بجديد إذا ما تحدثنا عن عصر التقنيات الذي نعيشه اليوم، هذا العصر الذي دفع بعجلة التقدم إلى الأمام، بقدر ما أساء إلى موازين الطبيعة، هذه الحالة المؤسفة التي وصلت إليها التقنية الحديثة التي أفرغت الطعام من محتواه الحياتي، وجعلته مجرد مواد يضعها الإنسان في جوفه غير عابئ بما قد تسببه من علل، بل ودخلنا عصر الأمراض المزمنة، فاللجوء إلى الأغذية الطبيعية يعود على الإنسان بفوائد جمة منها تقوية مناعة الجسم، والحؤول دون أمراض، والشعار الأساس هو “صحة الإنسان فوق كل اعتبار”.
– قبلاً، كانت المأكولات التقليدية والمغلفة بأسرار الطهو المتراكمة منذ قرون، شهية ومسيلة للعاب، نطرب ونذوب عشقاً في نكهتها الطبيعية، أطعمة طازجة ومملوءة بالعصارات الحية ومعدَّة على نار هادئة ومتقنة الطبخ وجيدة الهضم.
اليوم، معظم الأطعمة ميتة “معلبة ومعالجة”، مشحونة بالكيماويات، فقدت جزءاً من قيمتها الغذائية، قامت أصلاً لتوفر البديل السريع والرخيص، أطعمة مصنعة لا يمكن أن تقارن بتلك الأطعمة الشهية الصحية التي يمنحها لنا ما خلقه الله تعالى، وما يثير الخوف من تلك الأطعمة افتقادها لمقومات الصحة، ناهيك عن اختلاف نوعية المواد الخام التي تستخدم في تصنيعها.
– قبلاً، كانت الأطعمة نحصل عليها نقية من الطبيعة وطازجة، لا نشعر بالتعب أو تقلصات معدية من تناولها، هي مقياس الصحة.
اليوم، أصبحت الأغذية التي نأكلها مليئة بالمضافات الاصطناعية، لا تريح معدتنا، ونشعر بالتعب من تناولها.
– قبلاً، كان السمن البري، سمن الآباء والأجداد المستخلص من حليب أفضل القطعان يفيض على جنبات “العصيدة” أو “الهريسة” أو “طبق السمك بالأرز”، بل حتى الفول، دون أن نعرف شيئاً عن ما يسمى كوليسترول أو نسمع عن شبح اسمه الدهون المشبعة.
اليوم، حل السمن المصنع “أولسترا” محل السمن الأصلي في تزييت الأوردة والشرايين بكميات قد تكون مضاعفة، أصناف وأنواع رخيصة الثمن ورخيصة القدر، ورغم أننا استسلمنا لهذا السمن البديل، إلا أن السمن الحقيقي يبقى سمناً، وتلك مجرد زيوت!!
ولكن المؤكد والمؤكد أنه لا يوجد من قال من أهل العلم المعتبرين بفهم الأمور بأن تناول السمن البري أو الشحوم أو اللحوم أو غيرها من الأغذية الطازجة من قبل الأصحاء يسبب الأمراض وإنما قيل إن الإكثار وسوء الاستهلاك وعدم التوازن في تناولها هو المسبب للأمراض وأيضاً بإذن الله من قبل ومن وبعد.
– قبلاً، كانت المرأة المحور الأساسي للأسرة، فلديها الرغبة والوقت الكافي لتحضير الطعام وإعداده بعناية تامة، وفي ظروف صحية، مما يجعل المحيطين بها “أفراد الأسرة” يتجهون مباشرة إلى مطبخها “مطبخ الأم” الذي فيه الفن والإبداع والقيمة الغذائية، وعلى هذا فإن حياة هذه المرأة أكثر حظاً وسعادة.
اليوم، اتجهت الأسرة إلى الأكل خارج المنزل، بسبب خروج سيدة المنزل إلى العمل، وأصبحت من الأمور المعتادة، وترتب على ذلك خلق عادات غذائية سيئة ومشاكل صحية.
– قبلاً، الوجبة معدة في مطبخ البيت بعناية كافية وحركة الطعام البطيء، وتتناولها العائلة بتمهل، تتيح مراعاة الحاجات الغذائية لكل فرد، كما توفر للجميع فرصة الحصول على غذاء صحي وحسب الرغبة، اليوم، ساد نظام “الأكل على عجل” وشاع نظام “سخن وكل”.
– قبلاً، كانت المرأة تقوم بأعمالها في المنزل دون أن تشتكي من الإعياء أو الكسل، تبدل جهداً عضلياً مستمراً، ولا تشعر بالخوف من السمنة وتراكم الشحم، أو التردد على مراكز التخسيس واتباع الريجيم وصرف المبالغ على ذلك، وكلها غير مجدية، هكذا المرأة محبة للحركة وتتمتع بالصحة واللياقة، ففي الحركة بركة.
اليوم، ملأنا بيوتنا خدماً، وأعيينا أجسادنا بالأمراض التي سببها أسلوب الحياة الخامل والضعف وانحطاط القوى.
قبلاً، اجتماع العائلة مرة أو مرتين كل يوم على مائدة الطعام – أو سفرة الطعام، تتمادى العائلة في التمسك بأهمية هذا الاجتماع الذي يوفر الاستقرار الكافي اجتماعياً وتربوياً ونفسياً وصحياً في حياة الأسرة.
أصبح اليوم العائلي يمر من دون اجتماع حقيقي، ومن دون لقاء صافٍ من ارتباطات الحياة وصخبها وتفاصيلها.
إن مائدة الطعام اليوم تقف بحزن على أطلال العائلة المجتمعة حولها بالأمس التي شهدت تجمع أفراد العائلة على مائدة واحدة، حيث يلتئم الشمل حول المائدة العامرة بأطايب الطعام، وأن يكون وقت الأكل ممتعاً ورائعاً معاً، فلابد أن تستمتع الأسرة بكل لقمة لذيذة والحديث السلس أثناء تناول الطعام، حين لم يكن خيار المطاعم وتوصيل الطلبات التي راج سوقها متاحاً.
قبلاً، كان أهل البيت يحرصون على حُسن الاستفادة من المؤونة المنزلية وما قد تشمله من مختلف أنواع مواد الأكل، وعدم المغالاة في استهلاكها حفاظاً عليها من الهدر، وحماية للعائلة نفسها من العوز والمجاعة والاضطرار إلى اقتراض الحاجيات.
اليوم نشاهد ظاهرة الإسراف والبذخ المترف انتشرت في مجتمعنا من مبدأ الأغذية زهيدة الثمن بمقاييس الدخل والوفرة والتنوع، التصرف بلا مبالاة تجاه الأكوام الرهيبة من الطعام التي تُلقى في حاويات القمامة، وديننا الحنيف يحثنا على المحافظة على الطعام ويحذرنا من الإسراف فيه، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ}.
تخلينا نحن جيل اليوم عن كثير من تلك الكنوز الغذائية التي تمتع بها آباؤنا وأجدادنا، وطرنا وراء كل مطبخ شرقاً وغرباً، تنازلنا عن تلك المركبات الطبيعية وانغمسنا آلياً في معركة التهام كبرى حتى فقدنا توازننا، وأصبحنا نلمس كيف أن غذاءنا صار داءنا، وكيف أن أمراض المجتمعات المتخمة أصبحت تلاحقنا وتهددنا كسبب هام للمرض بل ربما الموت، في تلك اللحظة الصعبة، اكتشفنا قيمة الأغذية الطازجة العضوية، لكن متأخراً.
والخلاصة أن أي شخص يستطيع أن يُكوّن غذاءً صحياً من أغذيته المحلية، والعنصر الأساس هو الوعي الصحي والغذائي، فكلما كان الشخص واعياً بكيفية إعداد الغذاء المتوازن وتناوله بالإضافة إلى تجنب العوامل المساعدة على حدوث الأمراض والآلام، كانت صحته أفضل.
جيلنا يدفع الثمن بعد أن نعمت أجيال سابقة بغذاء حافظ على الحيوية والنشاط وإطالة الحياة بإذن الله تعالى.
منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.