ننثرُ السطور، ونُشكّل الحرُوف بمذاق المشاعر التي نستقي منها الأحداث، ثم نضع أنفسنا في مَأْزِق نسْج الأحداث كمُعْضِلَة أو حبكة دراميّة نصل من خلالها إلى نهاية قصة جميلة تدعو للتأمل حينًا، واقتباس الخبرة حينًا آخر.
وبين هذا وذاك نشعر بأشجان القلم وهو يقصُّ القصص، نستمع ونقرأ ثمّ نتدبّر ونتأمّل أطراف الحياة بزهوها ومرارتها. ويبقى جمالُ الحكاية في روايةِ أحداثها، وفهمها فهمًا يأسر القلوب، ويتذوقه الفكر، ويلامس الوجدان.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الأعراف، آية 176].
قد تبكي الأقلام من حيث لا نشعر بها،
وقد تنصت لبكاء قلمي وأنا أكتبُ هذه الكلمات لأنهُ أثار عاصفة من الانفعالات في وجداني!
إنّنا في عالم الحروف والأقلام نعلم أنّ القلب يتنازل للحرف وتصبح الكلمة سيدةً العرش. تصدر الأمر تلو الآخر كحرف مُقدس حيث يُجسّد مشهدًا تحسبه شاخصًا أمامك.
وليس بوسعي إلا أن أسرد هذه الأحداث من لسان ذويها؛ لعليّ كراوية أصلُ لمنافذ الجمال فيها.
نشأتُ في بيت يضجّ بالبنين والبنات، الأخ في خدمة أخيه، والتّعثّر لدينا كتعثر نحلة تقف على بتلات الزهّرة لكنها لا تسقط لأنها تمتلك جناحين ينقذانها في وقت سقوطها.
هكذا درجنا في أسرة مُحبة كنّا ومازلنا بهذه المشاعر الجيّاشة.
قلب أمي مثل خام الذهب الأصيل ونفس أبي عزيزة أعطتنا دروسًا في الكرامة الإنسانية.
جميع أخواتي وإخوتي تزوجوا. بقي أخي الصغير الذي كبُر وتجاوز الثلاثين من عمره غير أنه يعاني إعاقة عقلية وعدم القدرة على الحديث.
لكن الجميع يفهم إشاراته، هو محبوب لدينا كثيرًا، كما أنه ينتظر قدومنا بين حينٍ وآخر، ويشاركنا أفراحنا، وينشرح قلبه بالحديث معنا، نتسابق في تلبية طلباته، نضحك معه، نتسامر برفقته وإن كان لا يقوى على السهر لظروف مرضه.
لم يعشْ أخي كأنداده الطبيعيّين لكنه عندما يقع في مشكلة ما يدرس هذه المشكلة من جميع جوانبها، حتى يكون حلّها حدثًا لامعًا في ذهنه.
ثمّة جمال في أحداثه الخيالية يفرح بها كثيرًا، خاصة عندما يُزحم عقله بإخراجها إلى حيز الوجود، يُطمئن نفسه بقول خليل مطران:
وإذا تمنيتَ الحياةَ كبيرة
بلغتها بكبيرة الأعمال
في يوم ما تكوّنت لديه فكرة من وعيه العميق بالتغيّرات التي حدثت في زمنه، عندما أبصر أخواته البنات يقدن سياراتهن، فلم يجد مكانًا يُخفي فيه أفكاره لأنه أراد إخراجها عنوة طالبًا يد العون منا.
رأيته حزينًا جدًا لأنه يريد شراء سيارة خاصة به، وقد ادخرّ مبلغًا من المال لذلك، لكنه للأسف الشديد لا يستطيع القيادة.
ظلّ حزينا يراقب حركة سير السيارات وكل حلمه أن يقود سيارة، رأيت في عينيه حديثًا مؤلمًا يقول: أخواتي البنات يمتلكن سيارات خاصة بهن وأنا لا أستطيع فعل ذلك!
شعرت بحزن شديد عليه؛ لأنه في كلّ مرة يراني يخرج المال الذي ادخره لتحقيق أمنيته ويرجوني أن أشتري له سيارة!
ونحن في ازدحام معترك الحياة لا يسعني إلا أن أخْتم حديثي بقول لُبيد بن ربيعة:
إِذا المَرءُ أَسرى لَيلَةً ظَنَّ أَنَّهُ
قَضى عَمَلاً وَالمَرءُ ما عاشَ آملُ
وتظلّ بعض الأمنيات عالقة بين السماء والأرض إلى أن يأذن الله تعالى لها بالمثُول بين يديّ ذويها، وما أعمارنا إلّا آمال نسعى خلفها، نُمهّد الطرق بالعمل، حتى إذا سدّت الصّخُور منافذ الضوء حاربناها بجسارة والأمل يرُبّت فوق أكتافنا قائلًا: حتمًا سنصلُ لنهاية الطريق.