التفاوضية وإعادة صياغة الذات

أيّ مرحلة من مراحل البشر، ينبغي أن يبدأ التفكير فيها من داخلها، ثم يُعاد من خارجها، كمثل مرحلة النهوض العربي الإسلامي واتساع رقعته مع تأسيس الدولة، وكذلك مع عصر الأنوار الأوروبي وانبثاق العلوم، وأيضًا الظواهر كظاهرة انتشار الطاعون أو الملاريا أو الجدري أو كورونا، فالتفكير أثناء الظاهرة يسبق التفكير بعد انتهائها.
ينقسم التفكير إلى نوعين؛ أحادي فردي، وثنائي جماعي، وحديثنا لا يتعلق بالفردانية؛ لأنها تنتج مختلف أنواع الآراء التي من الممكن أن تجعل التفضيل للذات على حساب الآخر، بينما الثنائية هي التي تقود المرحلة وتؤدي غرضها في اجتياز الحدث الظاهرة، أو الانتقال من وضع معين إلى آخر.

لا أظن هنالك حاجة للحديث كذلك عن الآثار الناجمة عن وباء كورونا والتغيرات التي أحدثها في حياة البشر فهي أوضح من ضوء الشمس؛ بدءًا بالانعزال، ومرورًا بالتباعد الاجتماعي والجسدي، ووصولًا إلى فقدان الوظائف وانتشار البطالة، وليس انتهاء بالحصول على اللقاح الذي يمثل أمل البشرية القادم ومنقذها من هذا الوضع.

بما أن المرء لا يزال في ظل الوباء فهو قادر على محاورته والتوافق معه، فالإنسان يتكيف مع الظروف التي تمر عليه، مهما كانت نوعيتها وشدتها وخلال ذلك ينتج نوعاً من السلوك، ونوعاً من التفكير، يختلف عن الحال السابق الذي ظل لفترة يمارسه، ومعتادًا عليه، يظهر ذلك بشكل جلي في السلوكيات الاجتماعية بين البشر.
لنأخذ على سبيل المثال الشراء من إحدى البقالات فهناك الطوابير الممتدة والتباعد بين الأفراد وعدم المزاحمة، وكأن الجميع آمن بالديمقراطية والالتزام بالمسار رغم ما يعانيه من صعوبة. هذا المثال يمكن القياس عليه في جميع الأماكن الأخرى، كالترفيهية، والحكومية، والمصانع، بل وحتى في الجلوس داخل السيارات وكيفية التوزع والتباعد.

التفاوضية تستلزم بحسب هذا المفهوم طرفين أو أكثر، وعلى أساس الأطراف يتم تحديد القوانين العامة للتفاعل بين البشر، وهي تعتمد بشكل أساسي على القبول، الذي من دونه لا يكون هنالك أي فائدة من التفاوض، فللوصول إلى أي اتفاق لا بد من المفاوضة، التي هي فعل إنساني أصيل، وتؤدي إلى القبول بالآخر ورأيه.

التفاوض والقبول بالآخر، مهما اختلف المرء حول الآخر، أهو القريب من الديار أم البعيد عنها والقادم من وراء البحار للسكن والعمل؟ يظل المفهوم حاضرًا، ومستقرًا داخل الأذهان، وإن شاب تطبيقه اختلاف من فترة لأخرى ومن مكان لآخر، فالبيئة البدوية لا تقبل التفاوض، عكس البيئة الحضرية التي ترحب به.
البيئتان البدوية والحضرية وما بينهما من اختلاف عميق في كيفية التعاطي مع الأوضاع السائدة، يؤمنان بأمر واحد شديد الأهمية، ألا وهو النجاة والتماسك، ومن دونهما لا يكون للمجتمع وجود، فالبقاء شرط من شروط إدامة السيطرة وتحقيق النفوذ، بينما التماسك شرط من شروط القدرة على إجبار الآخر للقبول بما يرتئيه هذا الطرف أو ذاك.

هو صراع بين طرفين، ولا عبرة بالأقلية والأكثرية هنا، فظروف الوباء تجبر الجميع على التزام نمط معين من السلوك والتفكير ولا فرق بين حضري وبدوي، أو عربي وغربي وآسيوي، الجميع متفق على ضرورة النجاة والتماسك، وهنا تنشأ الحاجة إلى التفاوض.

ليس المقصود بالتفاوض والتفاوضية الدخول في حوارات مباشرة والوصول إلى نتائج يتم تطبيقها على أرض الواقع، فهذه الحالة لا تختص بالمجتمع وإنما تتعلق بكيفية إدارة الصراعات بين البلدان، بل المقصود هو قبول الطرفين بحق بعضهما في الحياة والوجود وما يشمل ذلك من حقوق، وعلى هذا الأساس يكون التفاعل بينهما.

المجموعات الصغيرة كالعمال أو الأطباء أو المهندسين أو المعلمين لها حضور واسع وفعل داخل المجتمع يوازي ما تقدمه، فأهمية الطبيب أو المعلم أو العامل تنبع من مقدار ما يقدم لهذا المجتمع، وهو ليس في حاجة للتفاوض حول حقوقه وكيفية التعامل معه، هو فقط ينتزعها من الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى كما هو مشاهد وملاحظ خلال زمن الوباء.

انتزاع الاعتراف بالحق هو نتيجة نهائية للتفاوض، ومن أجلها جاء، وعليها يعتمد، وليست هناك أشياء أخرى تستحق أن يُنظر إليها بعد الوصول إلى هذا الحق، وهو غير مكتسب لسبب أو لظرف أو لمرحلة، بل هو أصيل ومنتمٍ إلى المجتمع، وعلى هذا يكون الانتزاع هو السمة البارزة في التفاوضية وهو ما يعطيها قيمتها.



error: المحتوي محمي