قضيت وقتًا ممتعًا في ساحة كتالونيا حيث مهرجان الطفولة الآسر والمحفز لخيال البراءة، ساعاتان أجوب فيها أركانه وزواياه، نسيت نفسي كما الأطفال، وما أحلى الدنيا حين نراها من خلال عيونهم.
عيوني تبصر مكتبة ذات طابقين اتجهت نحوها بهدف شراء أي كتاب تشكيلي يروق لي، تقليد اتبعه في كل سفرة، عاينت زوايا المكتبة وما تحويه بنظرة عامة مركزًا على تصاميم أغلفة الكتب والتقطت صورًا لبعضها، تنقلت بين رف وآخر ووقفت مليًا أمام مجموعة كتب عن مشاهير كرة القدم، وبين كتاب وٱخر وقعت عيناي على صورة مارادونا تغطي غلاف كتاب ذي حجم كبير وسمك عريض، قلبته ببطء متأملًا الصور الباهتة ألوانها، طباعة غير ناصعة لرهافة الورق، كتاب وليس بكتاب، فما بين الدفتين مجرد تجميع صفحات رياضية قديمة، منتقاة بعناية من عدة صحف إسبانية، مبوبة تاريخيًا حول مسيرة مارادونا مع نادي برشلونة، أرشيف شبه شامل لحقبة مثيرة من حياته، ووددت اقتناءه لكني صرفت النظر بسبب سعره الباهظ ولغته الإسبانية، عاودت تصفحه برفق كي لا تتمزق صفحاته العتيقة، وظللت أقرأها ورقة إثر ورقة وصورة وراء صورة، كل واحدة تقص حدثًا ومواقف، مجموعات صور تتعاقب وتروي تقلبات الفتى من حال إلى حال ضمن تواجده في النادي والمدينة، أوراق صحف تنبئ عن صراع كرة ونشوة نصر وصراخ ألم، مسيرة متشظية للفتى الأرجنتيني المثير للجدل. أطبقت الكتاب متسمرًا برهة من الوقت كمن يطوي مرحلة عمر مضت، حياتنا كتاب مفتوح نخطه بأيدينا، الناس والزمن شواهد على ما فعلنا بترك الأثر سلبًا أو إيجابًا أو كليهما بزياة هذا أو نقصان ذاك وما دونهما عيش على الهامش مجرد حياة بيولوجية.
انظر لمجاميع الكتب المتناثرة وشغف رواد المكتبة بين قارئ ومشتر، رحت أتساءل في خاطري، ماذا تحوي هذه الكتب المكدسة؟ أتتشابه مع طرح مجلدات تراثنا المتخم بالغث والثمين، أم تتجاوز استنساخ العنعنة!
كم مكتبة غربية دخلتها وقرأت العنوان العريض غير المكتوب لكنه ملموس ومحسوس: ليس مهمًا أن تشتري كتابًا ما، بإمكانك أن تتصفح ما تشاء وتقرأ ما يروق لك جلوسًا على الكراسي الأنيقة ثم تنصرف، بشر همهم الكتاب، والمرتادون كثر تشغلهم المطالعة كعدوى مجتمعية مألوفة، وركن خاص شهدته في كذا مكتبة بتجهيز حيز للأطفال لتشجيعهم على القراءة الجماعية، عبر ورش تفاعلية؛ تمثيل وحوار وهدايا. إن الاهتمام بالنشء واسع المدى ففي نادي برشلونة توجد أكاديمية الصغار، مهمتها اكتشاف الموهبين في كرة القدم وصقل مهارات اليافعين، وصناعة لاعبين منذ نعومة أظفارهم، ميسي أحد خريجي هذه الأكاديمية وكذا مجايليه المشهورين.
اهتمام واسع بعالم الطفولة بفتح مراكز خاصة لهم ليس في مجال معين بل في عدة مجالات؛ العلوم والآداب، والفنون بأنواعها والرياضة بصنوفها، تأسيس على أشده، من يعد نفسه باكرًا باستشراف المستقبل يكسب الرهان، ولا مكان للمتثائبين والكسالى.
صخب مدينة برشلونة آسر، كلما يممت وجهك تجد البريق والمسرة والمعرفة.
توجهت ليلًا إلى مطعم الخيمة لصاحبه اللبناني أبو خليل، وهو مقصد للعرب وحتى بعض الإسبان والسواح، قدمت إليه كبقية قروب رحلتي، ومعروف أن أغلب المسافرين العرب يبحثون عن أكل الحلال وبانحياز لطعام بيئتهم، وهذا مكان يحمل تراث الشرق يقدم أشهى المأكولات الشامية.
بعد العشاء تعرفت مصادفة بشاب إماراتي اللسان وتشجيع البرشا جمعنا ساعة زمن، اكتشفت أن المدينة مفضلة لديه دون سائر البلدان بسبب ناديه المفضل، تبادلنا أطراف الحديث عن كرة القدم الخليجية والعالمية، وفتحنا المواجهات الحامية بين الغريمين التقليديين الإسبانيين، وأدهشني حماسه الزائد للبرشا، وكذا ذاكرته الرقمية، معددًا بدقة المباريات والمواسم التي تغلّب فيها البرشا بالخمسة والستة، مستعرضًا مسيرة انتصارات الفريق ومستذكرًا الكروت الحمراء والصفراء وحتى التصريحات والملاسنات!
وأوضح لي بعضا من أسماء شيوخ الإمارات وميولهم الكروية وانقسامهم بين الريال والبرشا، ولم يتوان بتشغيل أغنية حسين الجسمي من جواله، وهو يهز رأسه وفي يده خرطوم “المعسل” منتعشًا ينفث دخانًا ويردد طربًا: (حبيبي برشلوني، يموت ب برشلونة وأنا مدريدي لكن بغيرن عيونه، معاه أمشي بدربه أحب اللي يحبه ولو لمتوني عادي كيفه يايرضى قلبه، علي يفرض ميوله ويتشرط بكيفو شسوي حبه أقوى رقبتي رهن لسيفه، معاه أمشي بدربه أحب اللي يحبه ولو لمتوني عادي كيفه يا يرضى قلبه، أنا ما أطيق أزعله يدوس أدوس مثله عدوي البرشا أول والحين هويته الحين لجله، معاه أمشي بدربه أحب اللي يحبه ولو لمتوني عادي كيفه يا يرضى قلبه).
لكن صاحبي ليس راضيًا في الوقت الحاضر عن أداء البرشا الذي تعنى له في السابق مرات ومرات حضورًا للملعب بهتاف وتصوير مقاطع أطلعني على بعضها، بدت علامات التحسر ترسم معالم وجه ضجرا، مبديًا امتعاضه بقوله: “برشلونة مو مثل أول، قبل كان يعزف عزف”، قلت له: “هذا حال الكرة مد وجزر، لكن الأندية الكبيرة تمرض ولا تشيخ”. قال لي متسائلًا: “تدري من جلب هندسة اللعب لبرشلونة وجعله متفوقًا ومحققًا الإنجازات؟”، قلت له: “اللاعب الفذ كرويف”، قال: “أبدًا لاعبي الوسط تشافي وأنيستا وبعد اعتزال الأول وانتقال الثاني للصين تغير نسق اللعب، وعمومًا تشكيلة الفريق ليست كالسابق باستثناء ميسي”، أجبته: “هؤلاء طبقوا تعاليم أسلوب كرويف عبر مدرسة “لاماسيا” اللاعب الفذ الذي درب برشلونة لموسمين متتاليين 1989-1988، سألني: “من هو كرويف، لأن مدربي البرشا كثر وهذا المدرب لا أعرفه” لم أستغرب منه، لأنه من جيل اليوم ابن الثلاثين عامًا.
أوضحت له براعة هذا اللاعب العملاق، وتلوت أمامه نصًا مدونًا في مفكرة جوالي كتبته يوم رحيل أسطورة هولندا يوم 24 مارس 2016 عن عمر 68 عامًا، أرسلته حينها في قروب رياضي خاص بأصحابي تحت عنوان: (الجناح الطائر.. وداعًا).
(يوم كنت صغيرًا كنت لاعبي المفضل بعد بيليه، وأدمعت عيناي يوم رأيت الحزن مرتسمًا على وجهك بعد إخفاقك مع زملائك المميزين في تحقيق كأس العالم 74م أمام الجار اللدود ألمانيا الغربية، بقيادة القيصر باكنباور، فاز المانشفيت وأخذ البطولة التي كانت ذاهبة إليكم، تمكن من انتزاعها عنوة لأن البطولة على أرضه وبين جماهيره، وتعاطف الحكام معه، وليس ببعيد أن السياسة لعبت بأذيالها انتقامًا من منظومة المعسكر الشرقي إبان الحرب الباردة، خصوصًا بعد أن تغلبت ألمانيا الشرقية على الغربية في الدور الأول، وفي النهائي كنتم كبش الفداء لما دار في الخفاء.
ويتكرر ذات المشهد 78م أمام الأرجنتين بالخسارة في المباراة الختامية، لكنك أصلًا لم تكن ضمن صفوف المنتخب، قيل بأنك كنت مهددًا بالقتل لو حضرت للمونديال، وقيل اتخذت موقفًا أخلاقيًا ضد جرائم الدكتاتوري “خورخي فيديلا” رئيس الأرجنتين!
إيه يا يوهان كرويف أنت ملك غير متوج، وكذا منتخب بلادك، الكوكبة البرتقالية، الممتعة بالكرة الشاملة طوال حقبة السبعينات وأنت بينهم المايسترو والزعيم، كنتم تتبادلون المراكز في خفة وسرعة ورشاقة، تربكون خطط المدربين وتحيرون الخصوم والجماهير ترقص طربًا. قدركم بأنكم أسوأ حظ في تاريخ كرة القدم!
ذقتم طعم الفرح حينما انتقمت في المباراة الختامية ضد ألمانيا وعلى أرضها بعد مرور 13 عامًا من تلك الواقعة المونديالية وذلك عبر بطولة الأمم الأوروبية 88م بجيل آخر (فان باستن، خوليت وريكارد)، رفعتم الكأس في برلين بحق واستحقاق أمام عيون الجرمن قبل وحدتهم، لكن المونديال العالمي 2010 في جنوب إفريقيا وفي المبارة الختامية يتكرر المشهد ويعبس الحظ في وجهوكم للمرة الثالثة؛ هذه المرة خسرتم أمام إسبانيا، التي أخذت الكأس منكم، وما الغرابة فأنتم علمتموها سحركم بعد أن درب برشلونة يوهان كرويف، وانطبع أسلوب الفن في لعب الماتدور.
أيها اللاعب الأسطوري يا أيها الممتع والمستمتع بالمستديرة، أي فنون وأنغام كروية أطربت بها الملايين، جمال لعبك مدرسة مستقلة في عالم كرة القدم، تعلم منها لاعبون اشتهروا بطريقة لعبك، وإنجازاتك محطات للمدربين الطامحين، رحلت في هذا اليوم عن مجد وإبداع كروي، رحلت ولن تنساك ذاكرة عشاق الملاعب، شامخًا كعظماء أبناء بلدك الأفذاذ التي أنجبتهم الأرض الفلمنكية بدءًا من (برشت درر، ورمبراندت، وفرمير، وفان جوخ) هولاء الذين سجلوا بريشتهم المبدعة آيات الفن والجمال، وتدرس أعمالهم في جميع أكاديميات العالم، ولهم متاحف بأسمائهم، هم أبدعوا فنًا بأيديهم وأنت يا كرويف أبدعت بأرجلك فنًا كرويًا لن تنساك الجماهير في مشارق الأرض ومغاربها، لن تغرب شمسك يا صاحب القميص البرتقالي، فقد أدخلت المتعة الكروية إلى برشلونة بفن “التيكا تاكا”. يا طواحين هولندا بأراضيك المنخفظة المفروشة ورودًا من كل صنف ولون ويا شعب من أرق شعوب العالم أعزيكم في رحيل أسطورة القدم الهولندية والأوروبية يوهان كرويف”.
وما أن انتهيت صفق صاحبي الإماراتي استحسانًا بما سمع من خاطرة رياضية، وفاض مدحًا ومعقبًا قائلًا: “أفدتني ياخوي هذا المساء عن لاعب أجهله”، وفي الحال راح يبحث عن مسيرة هذا اللاعب عبر اليوتيوب، قلت له استمتع بفنون هذا اللاعب والآن أستأذنك فقد تسلل النعاس لجفوني، صافحته مودعًا، وقال جملة إسبانية: “Buenas noches”، معناها تصبح على خير.
وفي طريقي للفندق تساءلت: شخص ملم بأمجاد برشلونة حاضرًا، لا يعرف أن مارادونا لعب في صفوفه لمدة سنتين (84/83)، قلت له ضمن كلامنا المطوّل: معقول لاعب سحر الدنيا بلعبه وبمكانته الفذة وكان ضيفًا عندكم بتدريب ناديين إماراتيين “الوصل” 2011 و”الفجيرة” 2017، ألم تقرأ في صحفكم عن مسيرته؟! إذًا يا أخي طالما أنك مهتم بالشأن الرياضي وتشد الرحال لناديك المفضل أحيلك لزيارة متحف النادي لتتعرف على تاريخه برشلونة الكروي من الألف إلى الياء، قال غير مبالٍ: “ما همني المتحف، أبغى أشوف اللعب في الملعب”. وقبل أن أخلد للنوم تذكرت مقولة قائد رحلات بحريني لم تزل ترن في أذني: “زيارة المتاحف آخر اهتمامات السائح الخليجي”!
وعن تجربة شخصية من النادر جدًا أن أرى سواحًا عرب يقصدون المتاحف، وإن حضروا من أجل التصوير أمام لوحة الموناليزا! وكفى!