ورد عن الإمام الباقر (ع): “ثلاث من أشد ما عمل العباد؛ إنصاف المؤمن من نفسه، ومواساة المرء أخاه، وذكر الله على كل حال، وهو أن يذكر الله عز وجل عند المعصية، يهم بها فيحول ذكر الله بينه وبين تلك المعصية” (الخصال ج ١ ص ١٣١).
يبين لنا الإمام الباقر (ع) مقومات الشخصية المتكاملة القوية المرفودة بأهم القيم والصفات الحميدة، وسبب الإشارة لهذه الصفات الثلاث المذكورة هو اجتماعها المشترك في احتياج اكتسابها إلى همة عالية وإرادة قوية في الالتزام بها مهما كانت الظروف المعاكسة لها، فالشدة تعبر عن مجاهدة النفس ومناوءة الأهواء النفسية والشهوات الداعية للنزول إلى وحل العيوب والرذائل، فإن النفس البشرية إن لم يكبح جماحها الوعي الفكري والبصيرة بآثار الخطى، تتردى وتتلبس بمختلف الشوائب من الكلمات البذيئة أو غير اللائقة والسلوكيات غير المحببة وغير المقبولة أخلاقيًا واجتماعيًا، وأما التقييم والنقد الذاتي من الفرد لكل ما يصدر منه يكسبه مناعة وحصانة تجاه الخطايا، ويندفع بقوة همته نحو معالي الأمور.
الصفة الأولى في طريق جهاد النفس هي الإنصاف من النفس، بمعنى أن تعلو النفس إلى درجة طلب العدل والحفاظ على حقوق الآخرين مهما كان الطرف الآخر والظروف المصاحبة للموقف، فهناك من يتحرك في إطار النرجسية وتأليه الذات فيبحث في كل موقف وحدث عن نفعيته وما يعود عليه بالمصلحة وإن كان ذلك على حساب ظلم الغير، فليس هناك من خانة أو مفردة في قاموسه تعنى بوجود الغير واحترام خصوصياته وممتلكاته، فيمكنه أن يتخطى كل القيم الأخلاقية والقانونية إذا كان في ذلك حفظ مصلحته وتجنب أي خسارة وسوء يحيق به، فالمعيار الذي يحكم علاقاته بمن حوله مصالحه ولا شيء آخر، فلا يمكنه أن يتخلص من أنانيته لينصف الآخرين من نفسه لو تجاوز على أحد بقول أو فعل، ولذا فإن الاعتذار عن الخطأ في حق الغير، والعمل على إصلاح تجاوزه على حقوق الآخرين وما لحق بهم من أذى وضرر، فلا حرج عنده في أي فعل شنيع أو جرم يرتكبه بحق الغير ما دام يصب في مصلحته.
ولذا فإن الإمام الباقر يوجهنا لآلية الحصول على هذا التميز الأخلاقي وهو الإنصاف، فيحتاج إلى تهذيب النفس والتخلص من أغلال وأسر الأنانية، والخضوع للحق والعدل مهما كانت النتائج، فما ينفع المرء إن ربح شيئًا من حطام الدنيا الزائل حينما يخسر نفسه، نعم يخسر كرامته إذ يخضع للمظاهر المادية، والتي تعريه وتكشف وجهه الحقيقي المتلظي خلف قناع زائف.
الصفة الثانية هي مواساة الآخرين واستشعار حاجاتهم وظروفهم الصعبة، إنها المشاركة الوجدانية الإيمانية التي تجعل المؤمن يشعر بالسعادة الحقيقية حينما يمد يد العون المعنوي أو المادي لمن يحتاجه، وتارة تكون الحاجة علمية وفكرية فيثري ساحة البحث المعرفي بتلك المدونات والكتابات والمؤلفات التي تغذي العقول بالعلوم النافعة، وتارة اجتماعية بالتوجيه وتقديم النصائح لما يواجهه الغير من مشاكل أسرية وزوجية واجتماعية، فكم من الثواب الجزيل يناله من يسعى لرأب الصدع والتفكك في العلاقات بسبب الخلافات وسوء الفهم، وتارة تكون مالية من خلال المساعدات التي تساعد المحتاج على توفير مستلزمات الحياة الكريمة.
والثالثة والأخيرة ذكر الله تعالى العملي في مواقف تعرض الخطيئة وتسويلات النفس أمام المنكرات والمعاصي، فذكر الله تعالى ليس مجرد كلمات يتلوها الداعي دون تآزر فكري ووجداني معها، بل هو استحضار الرقابة الإلهية ومحاسبة النفس على كل ما يصدر منه قبل أن يشرع فيه، فخفاء فعله أو كلامه عن الناس لا يدفعه نحو الغفلة وارتكاب الذنوب، بل يحيا يقظة روحية حينما تعرض عليه المعصية ويوسوس الشيطان له مزينًا لها في عينه، فيمتنع عن مقارفة الآثام محصنًا نفسه بذكر الله تعالى في قلبه، فعصمة النفس من كلام السوء كالكذب والغيبة والنميمة واستصغار الغير وجحود حقوق الآخرين وأكل أموال الناس بالباطل، تحتاج إلى شعور نشط يستصحب مع تصور الفعل ما يكون عليه جزاؤه على ذلك في يوم القيامة.