منذ صغره، كان المُعلم محمد حسين حسين آل جعفر، يهفو إلى التأمل في كل شيء حوله لا سيما الألوان، حتى أن أهل الحي الذي يقطنه، كانوا يسمونه “المجنون”، حيث إن جنونه لم يكن فقدانه للعقل، لكنه يأتي لشغفه بالجمال، وخربشاته الفنية برغم براءة الطفولة، التي وجد فيها ضالته، كونه يميل إلى مادة الرسم، لدرجة أنه مغرم بها وبمعلمه المرحوم ميرزا الصالح.
يقول عن تعلقه إن كراسة الرسم كانت تستخدم لفصل دراسي كامل، أو على الأقل شهر، وكان والده، رحمه الله، لشغفه بالرسم، يشتري له كراسة رسم كل يومين.
تعلم “آل جعفر” الخط العربي في سن مبكرة، حتى أنه أصبح خطاط الحي، وكان أهل الحي يأتون إلى منزلهم ليقوم بعمل الوسائل التعليمية لهم، بدلًا من ذهابهم إلى المكتبة، لأنهم يرون أن سعر الوسيلة باهظ، وهو يأخذ نصف السعر الذي تطلبه المكتبة، ولا يطلب من الأسر الفقيرة مبلغًا ما، ولكنه يجبر خاطرهم بطلب إحضار “ساندوتشين” مع “قوطي بيبسي”، أو دفع ريالين قيمة قلم الخط فقط، متذرعًا بأن العملية لم تستغرق وقتًا وجهدًا.
لقد اشتعل فتيل غرامه بمادة التربية الفنية في المرحلة المتوسطة، لأن فيها أعمالًا تطبيقية، كالنجارة، وفي الصف الثاني متوسط، التحق بمنجرة في فترة الصيف، لدى نجار من الجنسية التركية، في منجرة مشهورة في مدينته صفوى.
وذكر عبر ابتسامة عابرة، من الذكريات، أنه ذات يوم، حيث كان النجار التركي يقوم بتركيب مقابض لمطبخ، خاطبه: “توقف”، مما جعل النجار التركي يرمقه بنظرة حادة يتخللها الغضب، بأن المقبض يكون في الأعلى وليس في الأسفل، وبعدما تأكد من صحة ملاحظته، أحبه كثيرًا، وأصبح يثق به لدرجة أنه لا يحب أن يعمل إلا وهو بجانبه.
الحاجة تولد اختراعًا
وكل هذه السنوات التي قضاها يشد خطاه ناحية التعلم، استطاع “آل جعفر” ابتكار جهاز cnc، الذي يعمل على تقطيع الفلين بالسلك الحراري.
وأشار إلى أن فكرة الجهاز راودته لأنه يعمل في المجال الفنّي، ويشعر بالحاجة إلى مثل هذا الجهاز، إذ إنّه غير متوفر بالسّوق المحلية، والحاجة ملحة، وسعره باهظ الثّمن.
وعن ولادة الفكرة، قال: “في عام 2019م، بالولاياتُ المتحدة الأمريكية، استلهمت الفكرة في معرض مشاريع التخرج في جامعةِ كانساس أثناءَ حضورِي حفل تخرّج ابني حسن”.
وتابع: “حينها رأيت بعض المشاريع التي تعتمد على اللوح الإلكتروني “Arduino”، تساءلتُ عنها، فأوضح لي ابني كيفيّة استخدامهَا وبرمجتها عن طريق الموقع العالمي “Grbl”، وهو موقع يضع فيه المبرمجون إبداعاتهم بصورة يمكن للطلبة والهواةِ الاستفادة منها “Open Source”.
وأضاف أنه بعد عودته أصابه الفضول بالتعرّف عليها والاستفادة منها، وساعده على ذلك الحجر الصحي، حيث تمكّن من الاطلاع على أكثر من ١٠٠ ساعة من الدروس حولها في برنامج قناة التواصل الاجتماعي “يوتيوب”.
وتابع: “شاهدت مئات المقاطع ذات الصلة به من حيث الهيكل والحجم والحركة الميكانيكيّة والمزالج “linear guide way”، والدوائر الكهربائية والبرمجيّة”.
واستطرد: “بدأت حينها بدراسة الفكرة بشكل جدّي مع ابني المُهندس حسن، وعندمَا وجدنا أنّ جميع الأمور ممكنة، بدأت العمل بمساعدته في كيفيّة توصيل الألواح والبرمجة الإلكترونيّة، وحينَ كانت تنقصنا بعض القطع الهندسية الميكانيكية، كنت أطلب منه تصميمها وطباعتها بواسطة 3D-printer، التي يمتلكها”.
على المحك
يشير “آل جعفر” إلى أن اليأس لم يكن ينتابه برغم الصعوبات الكثيرة، التي استغرق بعضها دقائق، والبعض الآخر سويعات، وبعضها عدة أشهر.
وأوضح أن الصعوبات، التي واجهته، تكمن في؛ رسم خط سير السّلك الحراري أثناء حركته، إذ إن انتقاله من منطقة إلى أخرى، يجب أن يكون مدروسًا على أن لا يمر بجزء من التصمِيم فيقطعه ارتخاء السلك الحراري عند عمله لفترة طويلة من 4 دقائق إلى 4 ساعات متواصلة، وتطابق القياسات بين التّصميم بالحاسب، ومخرجات الجهاز، وضبط سرعة الحركة، والاتجاه لأكثر من محرك، بحيث تؤدي إلى حركة واحدة، وكيفية استكمال العمل دون الإعادة من الصّفر عند وجود خلل.
وقال: “آمنت بأنّ الحل موجود، وأن العملية لا تتطلب سوى توفيق من الله وصبر وجد واجتهاد، إضافة إلى جمع المعلومات ومواءمتها”.
وتابع: “شيئًا فشيئًا اقتربت من عمل الإنجاز، بعدَ تأكدي من حركة المحرّك الخطوي “stepper Motor”، عن طريق ربطه بالحاسب، وتحريكه آليًا من حيث السّرعة، والاتجاه، والقدرة على تحويل التصميم إلى لغة G-Code، الذي تفهُمه آلة CNC ببرنامج Inkscape، أو البرامج التي ترسم خطوط الـ vector، أو الـ path، مثل:CorelDraw- Adobe Illustrator”.
وأشار إلى أن الجهاز يعتمد على محورَين X.Y، ويعملْ بثلاثة محرّكات، مع قاطع سلك حراري كربوني.
وبين أنه يستطاع التعامل به مع مختلف خامات الفلين من ضغط 10 إلى 70، وهو يعتمد على الموازنة بين متغيرين، وهما سرعة المحرك، ودرجة حرارة السّلك الكربوني.
وذكر أن مواصفات الجهاز، تأتي بأنه يعمل على تيار كهربائي 110/220 Ac فولت، ومساحته 2.5/65/1.7 متر الطول، والعرض، والارتفاع، ومساحة العمل 2/1م، وأكبر سماكة فلين 35 سم، ونظام التشغيل ويندوز 10، موضحًا أن الجهاز صمم بأفكار حديثة، وسيتم عرضه بعد الانتهاء من إجراءات الحصول على براءة الاختراع التي تقدم حاليًا بطلبها.
وأضاف: “الآن، أصبحت عمليّة التقطيع سهلة ودقيقة جدًا، لتزيين المناسبات، كأعياد الميلاد والزّواجات، والمناسبات، والاحتفالات، كما يلبّي أيضًا حاجات المحلات التجارية، سواء كانت خارجيّة، أم داخلية، وعمل الشّعارات المُجسّمة، والقوالب الجبسية، ويستخدم كبدِيل عن الزنكور – صعب وطويل الإعداد – لتحسين الرؤية البصريّة في المجمعات والشوارع والأماكن العامّة”، مشيرًا إلى أن المُخرجات، والدّقة فاقت التوقعات.
المعرفة ليست حكرًا
ونوه إلى أن مشكلات الأمس، هي التي قادته إلى اليوم، وما كان حلمًا أصبح حقيقة، وما كان صعبًا، أصبح سهلًا جدًا.
وقال: “إن العلوم والمعارف في عصرنا الحالي، ليست حكرًا على أحد، فإن أبواب التعلّم مفتوحة على شبكة الإنترنت، كنت أستمتع بمشاهدة الإبداعات والابتكارات في يوتيوب، حيث أمتلك سينما مجهزة في حوش المنزل”.
وأضاف أنه ليس مبرمجًا محترفًا، ولا يعلم إلا القليل من أساسيات الكهرباء والهندسة الميكانيكية، لكنه يمتلك القدرة على استخدام العديد والأدوات، مستعينًا بما يملكه من معطيات وخبرات جمعها خلال حياته، أدت بتوفيق الله إلى توليفها، وإخراج هذا الجهاز، نظرًا للحاجة المُلحة.
وتابع: “إن معظم المعرفة البشرية، ماهي إلا نتاج تراكمي، وهو الاستفادة من تجارب الآخرين، وتطوير الأفكار السابقة، وليست نتاجًا جديدًا في الغالب، وإن أهم اختراع مر على البشرية، يأتي في صناعة العجلة، وبها تسارعت عجلة الحياة”.
إنه أبي
واسترجع ذكرياته، لافتًا إلى أنه لا ينسى بعض مواقف تعليمية خالدة في ذاكرته، حيث إن والده كان دائمًا يحفزه ويبعث فيه الأمل، ليأتي المُشجع الأول له.
وذكر أنه كان يطلب من والده الحلاقة له حينما يطول شعر رأسه، وإذا فشل همس في أذنه: “انتقل يا بنيّ إلى الخيار الآخر، وهو الحلاقة على الصفر”، مشيرًا إلى أنه أنه ذات يوم أغلق باب المجلس، وقام برسم نخلة على الجدار، وصبغها بالألوان، وحين جاء والده، سأل من الذي رسم الشجرة الجميلة هذه في المجلس، ليجيبه: “أنا يا والدي”، فذهب وأحضر العصا، وأوسعه ضربًا بها.
وبين أنه من الأوائل الذين اشتروا كمبيوتر “ماكنتوش”، وكان يقضي الساعات الطوال عليه، لقرابة 12 ساعة، مما جعله يشعر بالألم في ظهره، وعبر ابتسامة قال: “أحضرت أمي مطرقة وضربت الكمبيوتر لتتخلص منه”.
وأشار إلى أن موقفًا حزينًا انتابه، لا يمكنه نسيانه، ففي 29 شعبان من العام الماضي، طلبت منه أم زوجته، رحمها الله، بأن يقوم بتعديل بعض الأشياء في المطبخ، واتفق معها بأنه سيحضر في اليوم التالي، وفي اليوم التالي، تم الاتصال به، فتوقع أنها تريد تذكيره، إلا أن الاتصال وقع عليه كالصاعقة، ليخبره بأنها فارقت الحياة.
أمنية وإهداء
وفي ختام حديث “آل جعفر” لـ «القطيف اليوم»، أهدى هذا الإنجاز إلى أبناء الوطن، وقال: “أذكركم بأننّا على العهد والوعد، وأن همّتنا تصل إلى ما بعد عنان السّماء في ظلّ ثقتنا العالية في قيادتنا الرشيدة، التي أعادت لنا الأمل، وبعثت فينا روح الإنجاز والتحدي”.
وأهداه كذلك إلى روح والده “رحمهُ الله” الذي كان معلمه الأول، وقال: “والدي الذي لا يجيد القراءة والكتابة، ولكن روح الأبوة والمحبة لنا، وحرصه على تعليمنا، كانت هي الدافع الأول لهذا الإنجاز”.
وأضاف: “يمكننا الاستفادة وإنتاج هذا الجهاز صناعيًا، من خلال تبني الفكرة من مؤسسة حكومية، أو قطاع خاص، والعمل على تطويره، وتلبية الاحتياج المحلي، والعربي، والعالمي”.
آل جعفر
المُعلم محمد حسين حسين آل جعفر، من مدينة صفوى، حاصل على بكالوريوسْ تعليم ابتدائِي “رسوم أطفال، وأُستاذ متقاعد من الهيئة الملكية بالجبيل، تخرج في المرحلة الثانوية، ليلتحق بكلية المعلمين، التي كانت تسمى حينها مركز العلوم والرياضيات، إلى أن دخل بعدها التربية الفنية.
يجيد “آل جعفر” برامج التصميم في الكمبيوتر، والبرمجة، والإلكترونيات، والهندسة الكهربائية والميكانيكية، وهذا الجهاز جاء نتاج كل هذه الأشياء التي يتقنها، أيضًا يملك في منزله ورشة معدة بكل ما يلزم لأعماله.