متلازمة الاحتراق النفسي

إحدى مراجعاتي بالعيادة تبلغ السبعين من عمرها أتتني تطلب الاستشارة في علاقة أسرية مهمة لديها وجاءت شكواها كالآتي:

ابنة عمي نديدة عمري أحبها منذ الصغر، نشأنا وتزوجنا وتقدم بنا العمر سوياً لا ننفك عن بعضنا البعض في مختلف ظروف الحياة، ابنة عمي إنسانة متدينة تقضي الساعات الطوال على سجادة الصلاة تحرص على ممارسة العبادة في مكانها وزمانها المناسب لها، ولكنها سليطة اللسان بذيئة الألفاظ مع الآخرين، حتى أولادها فلذات كبدها لم يسلموا من سخطها المستمر والدعاء عليهم بالموت والهلاك.

أحياناً أتحملها وألتمس لها الأعذار وأحياناً أخرى يضيق بها صدري ولا أعود أطيق الاحتمال، ماذا أفعل معها؟!
سألتها: هل هذه السيدة تعاني من ضغوطات في حياتها؟ سكتت لبرهة تحاول تذكر ما حدث لها، فأجابتني سريعاً: كانت لديها في الماضي،  فسألتها: وكم استمرت هذه الضغوط؟ أجابتني: حوالي ثلاثين عاماً من الزمن.

فقلت لها: الإجابة ببساطة أن هذه المرأة كان الله في عونها وعون أمثالها تعاني من متلازمة تسمى “الاحتراق النفسي” وحالتها تحتاج إلى الكثير من الدعم والعلاج النفسي والسلوكي والبيئي.

ما هي متلازمة الاحتراق النفسي؟
مصطلح الاحتراق النفسي هو مصطلح جديد نسبيًا قام هربرت فرودنبرجر لأول مرة بصياغته عام 1974 في كتابه الاحتراق النفسي، معرفاً إياه بأنه “انقراض الدافع أو الحافز، خاصةً عندما يفشل تفاني المرء في عمل أو علاقة عن تحقيق النتائج المأمولة”، والاحتراق النفسي رد فعل على ضغوط  الحياة الطويلة أو المزمنة.

أهم ما يميز متلازمة الاحتراق النفسي:-
تتميز هذه المتلازمة بثلاثة أبعاد رئيسية، الإرهاق، والتشاؤم، والشعور بضعف القدرة الحياتية والمهنية.

ببساطة أكثر إذا كان لديك متلازمة الاحتراق النفسي ستشعر بالإرهاق وتبدأ في كره حياتك ووظيفتك والشعور بقلة طاقة العمل لديك، ومع ذلك لا يزال هناك عدم وعي كبير بمتلازمة الاحتراق النفسي فتجعل الكثير من الناس يتجاهلونها.

أنواع الاحتراق النفسي:
1. الاحتراق الفردي:
ينتج الاحتراق الفردي عن الحديث السلبي المفرط عن النفس والرغبة في الكمال، بمعنى آخر عندما تضع معايير عالية للغاية على نفسك أو تعتقد أن لا شيء تفعله جيد بما فيه الكفاية.

2. الاحتراق النفسي المتقاطع مع الآخرين:
ينتج هذا النوع من الاحتراق النفسي عن العلاقات الصعبة مع الآخرين في العمل أو في المنزل، على سبيل المثال، يمكن لرئيس أو زميل عدواني معك في العمل أو غير مرحب به أن يضاعف الضغط الذي تشعر به بالفعل في العمل إلى درجة أن تعاني من متلازمة الاحتراق النفسي.
3. الاحتراق التنظيمي:
ينتج الاحتراق التنظيمي عن سوء التنظيم والمطالب الكثيفة دون مراعاة الوقت والمواعيد النهائية غير الواقعية التي تجعلك تشعر أنك تفتقد الهدف وأن وظيفتك في خطر.

أعراض متلازمة الاحتراق النفسي:
الإجهاد أمر لا مفر منه في الحياة بشكل عام ومكان العمل الحديث بشكل خاص، ولكن كلما تجاهلت عوامل الضغط في حياتك زاد احتمال تعرضك لمتلازمة الاحتراق النفسي، لذا وكلما تمكنت في وقت مبكر من التعرف على علامات متلازمة الاحتراق النفسي استطعت التخلص منها بسرعة.

1.الشعور بالتعب والإنهاك:
هل تصل في عملك للحد الذي لا تستطيع أن تحرك فيه عضلة واحدة؟ هل تجر نفسك من السرير للذهاب إلى العمل في الصباح؟ هل تمر فترة العمل في ساعاتها الثمانية وكأنها 80 يوماً؟ السبب هو متلازمة الاحتراق النفسي التي هي نوع أشد من الإرهاق والتعب المرتبط بالعمل وتتميز بالشعور بأنك مرهق عاطفيًا وجسديًا.

2. شعور بانعدام القيمة:
الركيزة الثانية لمتلازمة الاحتراق النفسي هي الشعور بقلة الكفاءة، وأنك لا تستطيع أن تكون فعالاً أو ذا قيمة ملموسة، وهذا يؤدي إلى عدم الإنجاز والإنتاجية، وأحياناً يتشكل في نفسك هذا الشعور بين الضغوط المتواصلة واليأس ثم ينزل عليك هذا الشعور ثالثاً لهما.

3. الاكتئاب:
إذا كنت تعاني من متلازمة الاحتراق النفسي وتشعر بعدم قيمتك أو جدوى وجودك، فلا عجب أن الاكتئاب سيحدث يعني سيحدث، وصحيح أن الاحتراق النفسي مرتبط بمهنتك أما الاكتئاب فمرتبط بكل حياتك، لذا يتصلان عند نقطة معينة.

4. كره وظيفتك:
عدم الرضا المهني هو أحد الآثار الجانبية العديدة للاحتراق النفسي مع أشياء أخرى أكثرها شيوعاً التغيب والتمارض حتى لا تذهب للعمل.

5. العصبية دون مبرر:
إذا أصبحت ضغوط عملك كبيرة جدًا ووجدت نفسك تنزلق إلى هاوية الاحتراق النفسي، فلا عجب إذا أصبحت عصبيًا مع زملائك في العمل أو الأسوأ من ذلك مع عملائك، فالغضب الصريح علامة أخرى على أن وظيفتك تحرقك.

6. فقدان التركيز:
مشكلة التركيز إحدى العلامات الدليلة الأخرى على متلازمة الاحتراق النفسي، حيث يبدأ عقلك وأفكارك في أخذ جولات سياحية بعيدة عن نطاق عملك في حين تكون موجوداً على كرسي العمل دون أن تعمل أي شيء.

7. الأرق:
هناك ربط بين صعوبة النوم وإكماله ورؤية كوابيس وبين الاحتراق النفسي، والمشكلة في أن التحايل على مشكلات النوم وعدم وضع حد لذلك قد يؤدي ذلك إلى زيادة فرص الإصابة بأمراض القلب، وارتفاع ضغط الدم، والسكتة الدماغية، والسكري، وأمراض الكلى.

8. الشعور بالصداع:
أولى العلامات التي استخدمت للاستشهاد بمتلازمة الاحتراق النفسي من قبل مؤسس المصطلح، كان الصداع المتكرر.

9. التدخين وتعاطي المخدرات:
استخدام الطعام، والكحول، والمخدرات، أو زيادة التدخين كوسيلة للهروب من الواقع أو الحصول على بعض مشاعر السعادة من أعراض الاحتراق النفسي الشائعة، وقد يكون هذا خطيراً لأنه يدفعك دفعاً نحو السمنة أو إدمان الكحول والمخدرات، مما يؤدي لمشاكل صحية ونفسية خطيرة.

10. ارتفاع ضغط الدم:
إذا كان ضغط دمك مرتفعًا، فقد يكون لعملك علاقة به، كما أن نبضات قلبك قد تزيد كذلك وهذا لن يلحق الضرر بقلبك فقط ولكن بنفسك وكليتيك كذلك.

11. التغيب المستمر عن العمل:
لمتلازمة الاحتراق النفسي أثر في التغيب عن العمل والحضور، ليس فقط من ناحية التعذر وعدم الرغبة في العمل، بل الحضور رغم المرض، فهاتان الحالتان دليل على أن مهنتك تحرقك.

علاج متلازمة الاحتراق النفسي في 8 خطوات:
بعد الانتباه لأعراض متلازمة الاحتراق النفسي، هناك عدة خطوات يجب القيام بها للتخلص من تلك الحالة والخروج منها بسرعة:
1. تخلص من الضغوط غير الضرورية:
تأتي متلازمة الاحتراق النفسي من استجابة مطولة للضغوط المزمنة، فكلما زادت الضغوطات التي تتعامل معها على أساس يومي زاد خطر الاحتراق النفسي، فليس المطلوب منك التركيز الشديد على أشياء ومشتتات جانبية كمتابعة البريد الإلكتروني مثلاً.

نحن نخطئ في الانشغال بالتحقق من صحة أننا نقوم بالأشياء الصحيحة، ولكن من السهل أن تكون “مشغولاً” في التحقق من رسائل البريد الإلكتروني طوال اليوم أو الذهاب إلى الاجتماعات مثل قضاء الوقت في عمل هادف ورؤية تقدم حقيقي.

2. حدد وقتك الضائع:
الخطوة الثانية التي يتوجب عليك القيام بها هي جمع البيانات لاكتشاف أين يذهب وقتك بالفعل، وهناك برامج قد تساعدك في ذلك كثيراً لأنه يراقب تلقائيًا كيف تقضي وقتك ويعرضه بطريقة يسهل فهمها.

3. نظم يومك:
قد يبدو المزيد من القواعد والهيكلة أمراً خانقًا ومسببًا لمتلازمة الاحتراق النفسي بنظرك، لكن العكس هو الصحيح عادةً، إذ يتخلص الجدول اليومي المنظم من إرهاق القرار والخوف والشعور بالاحتراق إذا أديت الأمر على النحو الأكفأ.

4. احصل على الاسترخاء:
قم بإنشاء طقوس للتهدئة تفصل بين ساعات العمل والساعات التي لا تعمل فيه، فحماية نفسك من متلازمة الاحتراق النفسي لا تقتصر فقط على ما تفعله خلال يوم العمل على الرغم من أن هذا جزء كبير، لأنه مع التعب الذي يقترب من مستوى الاكتئاب المصاحب لمتلازمة الاحتراق النفسي ستحتاج إلى أكبر قدر ممكن من النوم والراحة للتعافي.

للفصل والتوقف وترك مشكلات العمل في العمل يمكنك الاستعانة بهذه الخطوات:
* أزل أجهزة العمل الخاصة بك من أمامك واستبدل وقت الشاشة بشيء أكثر صحة.
* استرخ بقضاء بعض الوقت بمفردك للتعافي من المطالب الاجتماعية للعمل والمنزل.
* اقضِ بعض الوقت في هواية أو مهارة أخرى تستمتع بها وتحبها.

5. ركز على خطواتك لا نتيجة السعي:
الإنتاجية ومتلازمة الاحتراق النفسي لهما علاقة مزعجة، فكلما زاد العمل الذي تقوم به زاد الاحتراق النفسي لديك وزاد العمل الذي تشعر أنك بحاجة إلى القيام به، ولكسر هذه الحلقة تحتاج إلى تغيير طريقة قياس قيمتك، فبدلاً من التركيز على إنتاجية قائمة مهامك ركز على ما تحققه كل يوم من خطوات.

6. اهتم بنفسك:
خصص وقتاً لرعاية نفسك، نومك، تفكيرك، وطعامك، إذ يبدأ التعافي من متلازمة الاحتراق النفسي عندما تعطي الأولوية لنفسك وصحتك على العمل والعلاقات التي تحرق قلبك، وفي حين أن أخذ إجازة للراحة والاسترخاء سيكون دائمًا الحل الأمثل، إلا أن هناك بعض الأساليب التي يمكنك تجربتها خلال أسبوع عملك تتضمن:

* استخدام تقنيات التنفس العميق التي تساعدك على الهدوء وتجعل الجهاز العصبي يستفيد في تقليل التوتر أو إدارته.

* أخذ فترات راحة مدتها 5 دقائق لكل 20 دقيقة تقضيها على مكتبك أو في مهمة واحدة، وأهمية هذه الراحة في أنها بمثابة إعادة شحن همتك ونشاطك وحماية لك من الإرهاق البدني.

* اقض وقتًا أطول في ممارسة هواية خارج العمل فهذه تسمح لك بإلغاء الضغط والتخلص من التوتر والانفصال عن العمل، يمكن أن يكون هذا أي شيء تريده لكنها ستكون مفيدة بشكل خاص إذا كان الأمر يتضمن أي شكل من أشكال التمرين.

7. كن يقظًا:
ابني وعيًا ذاتيًا لك وقيم بيئة عملك وأدائك باستمرار، لأن أصعب جزء في علاج متلازمة الاحتراق النفسي هو أنك في كثير من الأحيان لا تتوقع حدوثها إلا بعد فوات الأوان، لهذا من المهم تطوير دفاع ذاتي بالوعي والتفكير والتقييم لحياتك وعقلك.

8. احط نفسك ببيئة داعمة:
أحط نفسك بشبكة دعم من الأشخاص الذين تثق بهم من أجل التعافي طويل الأمد، فالاتصال البشري ضروري لدفع خطر متلازمة الاحتراق النفسي عنك ورفاهيتك وصحتك أعلى ما دمت على اتصال بأشخاص آخرين.

ما أردت قوله لكم:-
أنه لا توجد حياة بدون آلام ومنغصات، فالحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء على كل حال في الخير والشر، ولكن وفي الوقت ذاته زودنا خالقنا عز وجل بالعديد من الأدوات والقدرات العقلية والنفسية والجسدية مقرونة برحمته وألطافه اللامحدودة مسبباً  لنا دائماً وأبداً أسباب الرحمة والنجاح والفلاح والتغلب على هذه الابتلاءات والصعاب مهما علا شأنها وتعددت أسبابها.

فقط ثقوا بالله
ثقوا بأنفسكم
خذوا بالأسباب واعملوا بها
توكلوا على الله حق توكله فهو نعم المولى ونعم الحسب ونعم النصير
قدروا قيمة الحياة وقيمة أنفسكم، فالله خير حافظ وهو أرحم الراحمين.


فاطمة الفرج
اختصاصية اجتماعية إكلينيكية



error: المحتوي محمي