( عدى النهار )
يوم الخامس من يونيه ، يوم لاينسى ، ليس ككل الأيام ، يوم مدمر على جميع الأصعدة ،على أثره تحطمت أحلام ، وتبخرت آمال ، وتلاشت أمنيات ، ببطش سحبت الأرض من تحت أقدام أصحابها ، اغتصبت غصبا في رابعة النهار ، عدو غاشم لم يرحم أحدا ، شكل الجغرافيا على هواه ، والمغلوب على أمره أطلقها تاريخيا ب (عام النكسة ) ! ، تخفيفا من هول الهزيمة ، هزيمة زلزلت كيان الأمة من شرقها إلى غربها ، ومعها غربت روح القومية العربية ، حرب دارت رحاها في ستة أيام ، قضمتنا قضما وتركتنا كعصف مأكول .
في مثل هذا اليوم وماتلاه أستنطق الماضي المؤلم بمرآة الطفولة ، بتيه مفزع ، ودرب موحش ، وسير مقلق ، وأنين تقادم عهده ، يهجو الزمان بنوح موغل في المدى ، أرث مثقل بالنحيب يأبى الرحيل والنسيان ، تضنينا صوره المتشظية ، كجروح نازفة ، وحرائق مشتعلة ، منذ يوم 5 حزيران من عام 1967 م ،
وإلى الآن .
أرقام توجع الذاكرة ولامهرب ، لأنها وشم مشؤوم في جسد الأمة ، ذلك التأريخ يعيدني إلى سن السابعة وبضعة شهور من عمري ، كنت أرافق والدي في دكانه الصغير برحيمة ، طفلا لاهيا في صخب المدينة العمالية المستحدثة .
ذات صباح كعادتي أشتري الخبز من (مخبز عبد القادر ) المجاور لمدرستي ( عمر بن عبدالعزيز الابتدائية ) ،
حينما دخلت المحل روعني مشهد ثلاثة رجال يتجادلون بصوت عال ، أحدهم يجهش بالبكاء يردد العبارة التالية ( انهزمنا ..خلاص مافي فايده هزمتنا إسرائيل .. سمعت كل شيء البارحة من راديو لندن ..) ! ،
ذهبت إلى والدي وقصصت عليه مارأيت وسألته (من هي إسرائيل ) ؟أخذ نفسا وقال بتوتر (هذي بلد كافرة عدوة العرب والمسلمين ) كيف ؟ ، (قوم ملعونون في القرآن ) ! ، يدي تغمس الخبز في كأس الحليب الساخن بارتجاف ، وعيني تتأمل وجه أبي بملامحه الشاردة ، يكثر من قول ( إنا لله ..إنا لله)، عازفا عن تناول الإفطار ، غابت البشاشة عن ناظريه ، تساءلت في خاطري لماذا أبي حزينا ، هل يتذكر إخفاقي في الصف الأول ، أم في قلبه شيء يخفيه ! ، تلومني نفسي على استنباط السؤال ؟ ، ضجيج يملأ رأسي ، بعد عام دراسي مضى ، متعثرا في تجاوزه ، حررتني العطلة الصيفية لبعض الوقت من عنائه ، أبواب المدرسة مقفلة منذ شهر ، لكن ساحتها مشرعة للعب طوال الوقت ، بسبب سورها الجنوبي الساقط أرضا ، أشاهد الأولاد الكبار ،كل مساء يمارسون لعبة كرة القدم ، وأصفق معهم لحظة تسجيل الأهداف ، صبية يتقاذفون الكرة بلهو مطلق ، وعلى غير العادة جآءتهم جماعة أكبر منهم سنا فنهرتهم عن اللعب ، يتقدمهم شخص أسمر ذو شعر أجعد ، قبض الكرة وأخذ يصيح بأعلى صوته ( يامخابيل تلعبوا وتضحكوا والعرب مهزومين .. استحوا على وجوهكم..بلا لعب ولا خرابيط .. ) !، توقف الركض بأنفاس متقطعة ، وعرق يبلل الأجساد ، تجمهر الجميع في وسط الميدان ، كل يدلو بحكاية متقاربة، تزيد وتنقص عن الآخر في تباين من التشبيهات والانفعالات ، كلمات تتطاير من الأفواه وأسماء ترن في الأذن رنا مباغتا ( إسرائيل بلعت كل فلسطين ، والضفة الغربية ، والجولان وقطاع غزة ، وسيناء …) ؟ ، بعض من طلاب مدرستي (عمر بن عبد العزيز ) ضمن الواقفين يتحدثون بحسرة وألم ، يقولون (إن آباءهم كانوا قبل ليلتين يبكون بسبب آثار الهزيمة ) ، كثر الهذر وتداخل الكلام في الكلام ، أنصت تعجبا من زملاء الدراسة ( محمد البيشي ، وظافر ….) ، كلاهما طرقا مسامعي رعبا بكلمة اليهود (المجرمون اليهود الصهاينة احتلوا القدس ..أخذوا المسجد الأقصى ……) ! ،
أسماء وكلمات وأوصاف مبهمة تربكني تفكيرا ، تزيدني تشويشا ، تعقيدا بين موقف وآخر ، تأتأتي تنهرني خجلا من الكلام ، وجوه تغص بالسؤال ، أنفاسنا مكتومة بضجر ، ياترى من يعيننا على الفهم ؟ ، مساء يرخي سدوله بحزن وعتمة ، ببطئ متكاسل تفرق الجمع .
لحظتها تمنيت لو أن جرس المدرسة يدق ، لينزع الخوف من قلوبنا ، لينقذنا من جو الكآبة الموحشة ، لنستعيد شيء من ألق الأمس ، حيث كنا نهرول فرحا لطابور الصباح ، نؤدي التمارين الرياضية بهمة ونشاط ، نتمايل بهجة و فرحا مع نشيدنا اليومي (مدرستي محبوبتي ياقرة عينية ، فيها العلم والآداب والأخلاق العالية ، ترفعنا درجة درجة وتنزلنا في المية ، يحي ملكنا فيصل ، فيصل والأمة العربية ) ، وعند نهاية النشيد تحمر الأيادي من حماسة التصفيق ، لكم سألنا أنفسنا مرارا مامعنى( الأمة العربية )؟ ، سؤال ظل حائرا على الشفاه .
ذات مرة ضمن برنامج إذاعة المدرسة ، وفي صبيحة يوم بارد ، اقيم مشهد حواري لقصيدة بعنوان ( يافا .. ) بين طالبين في الصف الخامس ، واحد منهم متقمص دور الأم ممسك بعكاز ، يرد عليه زميله ( لاعيد يا أمي خلف أسوار الشقاء ، العيد غيب أخوتي والعيد عاد بلا رجاء ) ، حينها رأينا مدرسنا الفلسطيني أستاذ ( صلاح ) يبكي ويغطي وجهه بكلتي يديه ، وينساب الدمع من خلالهما ،ضمه بعناق .مدرس آخر وآخر وهم يواسون بعضهم بالأحضان والبكاء ، سقطت مناديلهم المبللة على التراب ، داستها أرجل التلاميذ دون اكتراث ، اندفعنا للفصول على إيقاعات الجرس وصيحات أولاد المدرسين المختلفين عنا بملابسهم ولهجاتهم ، يضربون بأكفهم على الحقائب ويهتفون ( إنا حلفنا اليمين سنطرد عنك العدو اللعين …) ، ( فلسطين عربية ..فلسطين عربية ) .
هدوء حذر على غير المعتاد يلف شوارع مدينة رحيمة ، الطرقات الصغيرة تخلو من المارة ، إنها ليلة صيفية أخذني إلى فضائها صديق الطفولة (علي ضيف ) ، يدا بيد نتجول بين جنبات السوق الجديدة ، المقابلة لدكان والدي الخشبي ، يفصلهما شارع إسفلتي يشع بأنواره الحديثة ، أدهشنا منظر الحوانيت المفتوحة على مصرعيها خاوية من أصحابها ، خطوات ورأينا أغلبهم متجمهر في حانوت ( بن عيضة ) ، متحلقون حول راديو كبير الحجم ، يستمعون إلى إذاعة ( صوت العرب ) ، يصيخون السمع لخطاب التنحي للزعيم ( جمال عبدالناصر ) ، وكل واحد يمسح دموعه بأطراف (غترته ) ، ( بن فياض ) ذو الصوت الخشن يضرب كفا بكف ثم انخرط في البكاء ، تمتمات من كلام أسى ، حزن ووجوم باد على الجميع ، براءتنا مذهولة لم تعي بعد حجم المأساة ، واكتمل المشهد حزنا على حزن في ليلة أخرى ، بعد أن انفض رجال السوق عن ذاك المذياع ، الذي أوهمهم في الأيام الأولى بأحلام النصر الكاذبة !؟ .
صديقي (علي ) يشير بإصبعه إلى ( المقهى السوداني ) ، القريب من دكاني والدينا ، أصوات مرتاديه العالية دفعتنا للوصول إليه بفضول طفولي ، مكان يقدم وجبات الطعام الرئيسية كل يوم ، نصفه مفتوح في الهواء الطلق ، – استراحة خارجية يحلو فيها السمر – ، مقهى يغص بعمال متعبين تختلط رائحة عرقهم بروائح الطبخ ، إنهم عرب من جنسيات مختلفة ، وسحناتهم متباينة ( عماني ، صومالي ، سوداني ، سعودي ، فلسطيني ، حضرمي …..) رأينا مرتاديه يأكلون الكلام أكثر من الطعام ، جدالات متشنجة بصخب طاغ في جهة ، وثرثرة محمومة في جهة أخرى ، كلام يستفز بعضهم قياما وقعودا ، رطانة لهجاتهم وتداخل الأصوات أضاعتا علينا فهم مايقولون ، إلا عبارة التقطناها من وسط صدامات الكلام ، لأنها تكررت على أكثر من لسان ( ايش المسخرة دويلة مصطنعة ، تهزم جيوش العرب ) ! تبعتها جمل منفلتة ، غليظة اللفظ ، فاحشة القول ، هزت كراسي وطاولات المقهى ، انصرفنا عن لوثات الشتائم وبذاءة الكلمات ، ابتعدنا ولم يزل ضجيج الكلام يلاحقنا كرفيق ثالث إلى مضاجعنا ، حواسنا مشتتة في ذهول .
بعد ليال من خطاب التنحي الشهير- المدوي من المحيط إلى الخليج – رأيت ولد عمي (أحمد شلي ، أبو عبد العزيز ) ، متعب وكثافة الحزن مرتسمة على وجه ، قادما من عمله في ( شركة أرامكو ) ب.( رأس تنورة ) ، جلس في مقدمة دكان والده ( عمي عبدالله) وهو ممسك بالراديو في حضنه يستمع إلى آخر الأخبار ، والمذيع يقول ( هنا القاهرة ) ، بعدها تسلل نغم حزين يتهادى مع صوت عبد الحليم حافظ ( عدى النهار والمغربية جاية تتخفى وراء ظهر الشجر ،وعشان نتوه في السكة شالت من ليالينا القمر ، ………) وحينما وصل المقطع إلى ( ياهل ترى الليل الحزين أبو النجوم الدبلانين ، أبو الغناوي المجروحين ) شهق ابن عمي في البكاء ، لم يقاوم النشيج بآهة الصوت المفجوع ، منظره انعكس في عيوني دموعا ، وفي الجزء ماقبل الأخير من النشيد ، وقف منتصبا وهو ممتلئ حماسة قابضا يده ملوحا بها في الهواء وعيناه لم تزل تبرق بالدمع ! .
أجواء كئيبة تلف المكان
وحيرة تشكو الزمان .
كم أبكتني تلك المشاهد في سن مبكرة ، وأنا في الحقيقة الأمر لم أكن مستوعبا ماحدث ؟ ،
سوف تظل أغنية (عدى النهار ) ، تعيد لي أحزان خمسين عاما مضت ،ولم تمض من الذاكرة ، وكلما أستمع إليها تعاود دموع العين النزول ، حزن يتعاقب من تلك الأجواء المملؤة بالأسى والنحيب ، لذكرى مفجعة أصقلتها وعيا توالي الأيام ، لم يكن الأمر نكسة كما أشيع في أدبيات الإعلام ، بل زلزال هز الكيان ، جعل الأمة بأسرها مكسورة الجناح والوجدان .
( عدى النهار )
موال وجع ،
وحرقة قلب ، أغنية من وحي المأساة ،تجسد مدى وقع الهزيمة في نفوس ذلك الجيل الضائع بين الوهم والآمال المعلقة ، إنه (جيل الهزيمة والانكسار ) ، جيل قبرت أحلامه بعد هزيمة 67 م .
ياعبدالحليم عدى نصف قرن من الزمان ولازالت أجيال وراء أجيال تبكي حال أمتها التعيس ، من هزيمة إلى أخرى ، حروب تلد حروب ، من الداخل والخارج ، نبكي عاما بعد عام ، بكاء مضاعفا مرا .
عدى النهار
وأي نهار عدى ؟ .
3 يونيه 2017 م