في مديح المزاجية

أنا امرأة من برج الجدي، برج البنيويين، أولئك الذين يؤمنون أن كل شيء يُبنى بدقة ورويّة، الذين لا تنطفئ موسيقى القلق من رؤوسهم، ولا تنزل معاولهم من على أكتافهم ترقبا لعملٍ ما.

الجهوزية، الإرادة، الإدارة، كلها مُترادفات لطبائعهم وسلوكهم، رغم ذلك لم أنقض عهدا في عمري كأجندتي اليومية، لم أكتب يوما خططي إلا خالفتها، لم أنوِ عملا وبدأت به، إلا هبت الرياح لتعكس البوصلة حتى بتُّ أترقب دوما مفاجآت القدر لأمده بخطةٍ بديلة، لا أقول له نعم فيُغيّر من سَيره، ولا أقول له لا ليباغتني بشباكه وشوكته، تلك التي يضعها في يدي اليمنى لأحارب بها يدي اليسرى.

لي روافدٌ كثيرة ووفيرة تُعينُني كالماء المعين على تعب الركض وسغب التكتيك، ليس من مجال لذكرها الآن، لكن أهمها هي المزاجية.

أؤمن بالمزاجية كبوصلة داخلية توجهنا نحو ما ينبغي عندما تُعاكسنا الأمور، ستومض خطة بديلة، شيء يُشبه الفطرة أو الهرمون ربما، ذلك الذي يستجيب لأمرٍ أو يرفض آخر وفق معايير غامضة.

المزاجية ذاتها علمتني أن أترك مساحة كافية للآخرين، لتتنفس فيه مزاجيتهم وتُبنى خططهم، أعطتني فسحة كافية بيني وبين من يعنيني أمرهم لتنمو الأعذار ويُباح العتب، ليُزهر السماح، وتسير محامل الأخوة في بحر يتطهر بملح النوايا، محملة بالأعذار والمودة، وإن شاءوا العتب.

المزاجية هنا كحساسية عالية، لا كذات تتوه في الضحك العالي أو الغضب، لذلك لم أدهس نملة في مروري، أنا المتيقظة دوما للمهمشين ذوي الأرجل القصيرة عند الشباك العالي.

المزاجية التي جعلت رأسي دفترا للوجوه وتقلُباتها، ترصد العيون ببريقها وانخطافها، لذلك أيضا أقطف ما تيسر من أصواتهم وضحكاتهم، ثم أُغني الصمت تنويعات حياة، كلما ذبل الوقت وشهقت الأحزان.

كلنا بداخله «مية نغم يملى السُكات» لا أحد يسلم من حالة «الساعات ساعات» كما كتبها عبدالرحمن الأبنودي وغنتها صباح، لكنها المِزاجية مساحة مُتداخلة بين الوعي واللاوعي، وكأي صفة إنسانية تحتمل وجهين فتتحول في بعض الأحيان -على الرغم مما تحمل من صيتٍ سيئ- لمنحة أو دعوة للدخول في دائرة الحياة ودوارها، لنخلق لحظة ضوء وسلام نخترق بها دورتها المعتمة.


المصدر: آراء سعودية



error: المحتوي محمي