إنا أعطيناك الكوثر

أي وصف جامع لكل جوانب العطاء الفياض والرقي الكمالي كالوصف الإلهي للزهراء (ع) بأنها خير كثير تتفجر جوانبه بينابيع السمو والطهارة، الكوثر الذي تجسدت فيه آيات الصبر وتحمل المتاعب في خضم الظروف العاتية والأوقات الصعبة، فتجلت منها المواقف الثابتة التي يحتذي بها الشباب المؤمن في مواجهة صعوبات الحياة والمشاكل والمحن التي تداهمهم، وتبلورت من مواقفها (ع) الشجاعة والإقدام أثناء الأحداث الصعبة خلال الدعوة المحمدية لهداية الناس للحق منذ نعومة أظافرها، فكانت خير عون لأبيها المصطفى (ص) في مواجهة الهجمة الشرسة لأعداء الله تعالى، وكان عمرها الشريف – على قصره – مهدًا للعلاقة الإيمانية وملازمة محراب الطاعة والعبادة الحقة؛ لتنال أعلى مراتب الكمال والعصمة والشرف والعفة فكانت سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.

الزهراء (ع) امتداد للنور النبوي وتجسيد لما كان عليه المصطفى من خِلالٍ تفوح بشذى القيم الأخلاقية، فترتوي القلوب من آيات الكمال والفضيلة والعفة، إذ أن نهج الزهراء وسيرتها مدرج الرقي والسمو نحو معالي الأمور لمن يعي ويمتلك إرادة توجه قواه وفكره نحو الحق.

الزهراء (ع) عبر عنها القرآن الكريم بأنها كوثر أي صاحبة فيوضات وعطايا لا تنحصر بجانب معين، بل هي نبع دفاق في جميع اتجاهات العطاء والرقي الإنساني، وما علينا سوى التعرف الواعي والتقرب التأملي من مصدر النور لننهل منه ما يطهّر نفوسنا من شوائب الشهوات والأهواء المضللة، ومن المهم لترتب الآثار الحسنة للاقتداء بالزهراء (ع) التحلي بروح الإخلاص والعمل المثابر وترسم فضائلها في حياتنا، فإن مجرد الميل القلبي للحوراء الإنسية مع تكبيل اليدين في ميدان العمل لن يأتي بثمار التأسي بها والتخلق بأخلاقها الراقية، بل محبتها الحقيقية تتجلى بالسير على نهجها في علاقتنا بالله تعالى والتقرب منه بالأعمال الصالحة والحرص على تحصيل المضامين العالية للعبادات، فإن التدين هو التحلي بالأخلاق الحميدة وخلو القلب من المشاعر السلبية تجاه الآخرين من كراهية وحسد ونميمة وسخرية وغيرها من الآفات، إذ يحدثنا الإمام الحسن المجتبى (ع) عن رؤيته لأمه الزهراء وهي صافة قدميها في صلاة الليل في محراب التقوى والخشية من الله تعالى، ثم انفتلت من صلاتها لتتوجه لبارئها بأن يقضي حوائج جيرانها والمؤمنين، فلا غرو إن قلنا إن النهج العبادي للزهراء إخلاص في العمل ونقاء القلب وخلق رفيع في التعامل الحسن مع الآخرين.

وعفتها (ع) وحجابها طريق لنشر الفضيلة والترفع عن الشهوات المتفلتة، فالحجاب ليس مجرد عباءة تلف به الفتاة بدنها عن عيون الأجانب، بل هو تاج العفة في الحديث والتعامل مع الأجنبي بعيدًا عن التغنج والميوعة الموبوءة، والتي تفتح بابًا للذئاب البشرية الطامحة للافتراس والتطاول على أعراض الناس.

وأنّى للمجتمع من مضمّد لآلام المحتاجين وبلسمة جراحهم كعطاء الزهراء (ع) منهجًا ومسيرًا، فينعتق المرء من أغلال شح النفس والحب الأعمى للمال، وينطلق في فضاء الإنفاق والمساعدة بما يخفف وطأة الفقر واليتم، فإن مولاتنا الزهراء (ع) لم تبخل بشيء في هذا الطريق لتكون حجة علينا، فلم تستبق لنفسها شيئًا يأخذ بيد الفقراء إلا وأنفقته حتى العقد الذي أهدته لها أمها السيدة خديجة (ع)، فعلاقة الزهراء (ع) معنوية مع ذلك العقد وأكبر من تحديد ثمن له فهو ذكرى تجدد من خلاله العهد بأمها.

الكوثرية وصف جمالي يوجز لنا ما كانت عليه مولاتنا الزهراء (ع) من مواهب ونفحات ونبع فياض بالقيم والمعارف، ونحن مدعوون للانطلاق في رحلة تأملية في سيرتها المعطاءة لاستخلاص الدروس والعبر، وتحويلها لسلوكيات محببة ترفد علاقتنا بالباري عز وجل في محراب العبادة، وتقوّم تعاملنا بالحسن والجمال والنشاط الوجداني الذي يتعاطى مع قضايا المجتمع ومشاكله من خلال سيرة الزهراء (ع).



error: المحتوي محمي