تجولت كاميرته في واحة القطيف، تقتنص الجمال من حذاء عامل ابتلت قدماه بماء السمك، أو من انحناءة ظهر مزارع وهو يعدو خلف منجله، أو حتى من بيوت شاخت وهرمت حتى هجرها أحفادها، محاولًا أن يجعل من مقاطعه حديث عشق يتغزل في موطنه بطريقته الخاصة؛ بعد أن نقلها بعين محب و”عين السمكة”.
المشروع ليس الأول من نوعه للفنان التشكيلي علي الجشي، فقد سبقه عدة جولات وثق فيها المباني القديمة، والبيوت الهرمة في محافظة القطيف، إلا أنه هذه المرة حاول أن يكون توثيقه للمنطقة بأسلوب مختلف، أسلوب بُثّت فيه الروح، كما أنه التقط مقاطعه بزاوية عريضة جدًا، مستخدمًا في بعضها “عدسة عين السمكة”، فخرج بعدد من الفيديوهات التي تحكي حياة الإنسان المكافح في القطيف، مختارًا لنفسه أن يتجول في أكثر الأماكن بساطةً وأغناها حياةً وروحًا، فأخذ يتنقل بين سوق السمك وعدد من مزارع المحافظة، إلا أن الحنين شده لتوثيق المباني مجددًا، فخالط الحياة بأماكن تصارع أن تبقى على قيد حياة.
31 جولة في الخارطة الخضراء
استغرق الجشي في إخراج مشروعه قرابة الشهرين ونصف بعد أن بدأ في جولاته في 12 نوفمبر 2020 وحتى الـ3 من فبراير 2021، وقد حازت المزارع النصيب الأكبر في التوثيق، فمن بين 31 جولة، أخرج 17 مقطعًا للمزارع تحت مسمى “حصاد”، ثم بيوت القطيف القديمة فقد كان نصيبها 8 مقاطع تحت عنوان صرح وحملت جولات سوق السمك مسمى سمّاك وقد كان نصيبها 6 مقاطع.
ووجه ضوء كاميرته خلال جولاته الـ31 بصورة بارزة على البيوت التراثية في قلعة القطيف وتاروت، أما المزارع فقد تمشت تلك الكاميرا بين خضرة القديح والتوبي وتاروت والجش، واختص سوق السمك بالقطيف وتاروت في اقتناص المقاطع المخصصة لـ”سمّاك”.
على خطوات “ذاكرة الأرض”
سبق هذا المشروع الحالي، مشروع آخر لـ علي الجشي حمل عنوان “ذاكرة الأرض”، وثق فيه العديد من المنازل القديمة في محافظة القطيف على اختلاف مدنها وقراها، وعن سؤاله عن تغيير مساره بالتوثيق في هذا المشروع، أجاب: “عشقي للتراث العمراني منذ الصغر فكنت مولعًا برسمها وطريقة بنائها وتكوينها فمعظم تغطياتي السابقة كانت في هذا الاتجاه، ففكرت في إضافة عناصر مهمة تكمل مسار توثيق ذاكرة الأرض من الإنتاج السابق وتسليط الضوء على عناصر لا تقل أهمية عن السابق وهي المزارع والأسواق.
بين بيوتها وأبنائها
استشعرت كاميرا الجشي اختلافًا بين تصوير بيوت ساكنة تعجز حتى الريح عن تحريكها، وبين مزارعين وسماكين لا يستقرون في حركتهم خلال التصوير، يوضح ذلك: “بخبرتي المتواضعة في مجال التصوير بالفيديو يوجد فارق كبير بين تصوير البيوت وتصوير الأشخاص، فالبيوت تستطيع إعادة التصوير أكثر من مرة وبزوايا مدروسة، أما الأشخاص الذين تمثلوا في مشروعي الأخير بالمزارعين والسمّاكين فحركتهم مستمرة وعفوية، كما أن هناك انتقالًا سريعًا لهم من مكان إلى آخر؛ لذلك اعتمدت التوثيق بمسافة مناسبة وبزوايا مختلفة، والتحرك ببطء مع اقتناص الزوايا الجميلة التي لا تتكرر”.
قلوب المزارعين
رغم أن كثيرًا من القصص قد تولد من رحم رحلة في غير مكانك، إلا أن الجشي لم يصادف في جولاته أيًا من الحكايا التي تعلق في الذاكرة، ومع ذلك فهو قد تعثر بما هو أكبر من قصة أو حكاية تجعله يرتبط بالمكان، بعد أن صادف مشاعر تكفي لأن تكون مغناطيس جذب يعيده لبعض الأماكن.
يحكي عن ذلك: “حقيقة لا توجد قصة محددة أعادتني لمكان بعينه، لكن هناك أمرًا جعلني أكثّف الزيارة والتوثيق وتغيير خطة الجولات من المزارع إلى تصوير المزارعين أنفسهم، وذلك يعود إلى طبيعة المزارعين فقلوبهم طيبة، وهم دائمًا مرحبون ومقدرون رغم انشغالهم وتعبهم وكدحهم، فقد وجدت أن الابتسامة لا تفارقهم، كما أن بعضهم كان سعيدًا عندما طلبت منه التصوير والبعض طلب مني مزيدًا من التوثيق لحصاد منتجات مختلفة، وهذا ما كان له الأثر في زيادة عدد الجولات التي وصلت إلى 17 مقطع حصاد”.
يد واحدة تصفّق
حاول علي الجشي أن يعتمد على نفسه تمامًا في إنتاج مقاطعه، من “ألف” الفكرة حتى “ياء” الإنتاج والإخراج، فكان هو وحده بمثابة اليد التي تصفّق بل ويطربك صوت تصفيقها، وعن عدم اعتماده على آخرين لمساعدته، علل ذلك بقوله: “الجولات التي أقوم بها زمن الانطلاق فيها ومدة المكوث غير محددين، فعامل الطقس مهم وهو ما أعتمد عليه عند الانطلاق وخاصة مع كثافة الغيوم ومكان الشمس والظل، لذلك هناك صعوبة في أن أجد من يرافقني في تلك الجولات المتغيرة، التي يبدأ بعضها فجرًا أو ظهرًا”.
صوت صامت
كان الحديث صاخبًا ممتعًا في المشروع السابق لـ الجشي، فقد استعان بالحكاية المقروءة التي تروي تاريخ منزل قديم، بل هو أحد أقدم بيوت القطيف، فاصطحب المتابع في رحلة تاريخية مرئية ومسموعة في آن واحد، إلا أنه في هذا المشروع الجديد اختار أن يجعل للصورة وحدها صوتًا خاصًا بها، ورغم أن فكرة إضافة الصوت البشري والتعريف مهمة جدًا بالنسبة له، كما أنها كانت في مخططه – حسب وصفه-، إلا أن المعوقات في إيجاد داعمين متحمسين لإعداد المادة المناسبة حالت بينه وبين فكرته، كما أنه كمتذوق يرى أن الصورة تُترجَم عناصرها بلغة تناسب ثقافة ناظرها، لذلك ترك المشاهد يستمتع باللغة البصرية التي تستدعي دواخله وماضيه.
بعين السمكة
استخدم الجشي عدسة “عين السمكة” في توثيق جزء من مشروعه، وعلى الرغم من أن هذا النوع من العدسات لا يحبذه الكثير من المصورين، إلا أنه كانت له رؤيته الخاصة، فيقول: “عين السمكة من الزوايا البصرية التي أعشقها، خاصة في رسم المنظور للمباني في أعمالي الفنية، وهي ليست جديدة، فالمصورين أبدعوا في استخدامها في شتى المجلات، واختياري لها كان على أساس اتساع أكبر للمساحات والزوايا المتحركة، لتعطي إحساسًا بالحلم المتحرك، الذي يعطيك فرصة للرؤية بطريقة غير مألوفة لذات المكان وبزاوية غير اعتيادية”.
الحنين يعيده لـ”الجشي”
يمتلك الجشي حبًا مختلفًا للقطيف القديمة، فهو يصر على أن يختزلها في لقطاتها، ويفرد لها الوقت والجهد كي يحتفظ بها كنزًا ثمينًا بين أقراصه وصوره، لذلك قد يعيده الحنين إلى مكان زاره سابقًا، وكان له نصيبه في التوثيق.
يتحدث حول ذلك قائلًا: “كل الأحياء والبلدات التي وثّقت بيوتها التراثية أحن للرجوع إليها وتوثيقها بشكل أفضل، لكن هناك بعض المواقع مهما كثر تسليط الضوء عليها، فإنك ستجد زوايا جديدة لم تشاهدها من قبل، ومن تلك المواقع منزل عائلة الجشي بالقلعة، فقد عدت لتوثيقه في (صرح 1)”.
عودة بالذكريات
يختصر علي الجشي مشروعه في عدة أسطر، حيث ختم حديثه لـ«القطيف اليوم» بقوله: “الحنين واسترجاع الذكريات هي من أسعد اللحظات التي تغمرنا فرحًا عند سماع الوصف والكلمات فنعشق الصمت، وإن قدم لنا بصريًا نغط في سبات عميق، الناس والبيوت والزرع والطيبة والهدوء نشتاق لها، ورغم أن الماضي لن يعود إلا أنه باستطاعتنا الحفاظ على ما تبقى بالعطاء والعمل على التقديم والإثراء والتعريف بأهمية مشاهد الماضي ومكوناته؛ لواحتنا الجميلة التي لا تقدر بثمن، وتوجيه الأنظار نحوها، وتقديم ما يمكن تقديمه بشتى الوسائل والإمكانيات للعامة والمتخصصين”.
من مقاطع «حصاد»
من مقاطع «سمّاك»
من مقاطع «صرح»
صور متفرقة من جولات علي الجشي