آمال كبرى علقها نادي برشلونة وجماهيره على أقدام مارادونا بلغت أقصى مدى، أمانٍ وأحلام داعبت وجدانهم والخيال، رأوه المنقذ والمخلص في كل المنازلات، والقادر على إحراز البطولات، لكن الآمال تاهت وسط لهيب المواجهات، المشحونة بالتوتر والتحدي والصراع، ومباريات محمومة بشراسة لاعبين لا ترحم.
تجربة موسم مقلقة وشاقة وعسيرة بين كر وفر وشد وجذب، ساقتها رياح التقهقر بعدم إحراز (الليجا) – الدوري الإسباني، ربما يكون هو الأهم، لم يكن نشدان السلوى في تحقيق بطولة كأس الملك لوحدها كافياً، إنما الطموح كان أعلى بوجود اللاعب الأغلى في العالم!
إدارة النادي تزف التباشير بتفاؤل لما هو قادم برسم التعويض في المستقبل المنظور مع تغير المدرب الألماني “اودن لاتك” المتنافر مع مزاجية مارادونا، واستبداله بالمدرب الأرجنتيني “سيزار مينوتي” الذي قاد بلاده بإحراز كأس العالم 1978.
بهجة وترحاب عند الفتى الذهبي الذي قال عنه: “إن مينوتي هو المدرب المناسب لقيادة دفة الفريق”.
وعود ملؤها الفرح تجتاح الصحف الكتالونية بمفاجآت الغد، ومع انتظار قدوم الموسم الجديد 84/83 م، وإلى ذلك الحين نطوف فضاء المكان الذي يتواجد فيه مارادونا لأول مرة، لنتعرف على سرد الحكاية عن قرب، ونبصر الصور السالبة والموجبة التي سوف يتحدث عنها الفتى لاحقاً، مع إبراز أجواء نادي برشلونة بالدخول لملعبه الشهير، والذهاب لبعض من تاريخه الذي يفيض بالعراقة والدهشة، مع شيء من مناخات المدينة، وذلك عبر أزمنة متداخلة.
برشلونة حضن دافئ أم طارد؟ إشكالية الفهم عند السماع، هل المقصود النادي أم المدينة، وأيهما ظل للآخر؟
على مدى سنين خلت كلاهما عنوان لبعضهما، وإن كانت المدينة هي الأصل، لكن ثمة تقاطع بينهما متبادل ومختزل ومختزن، النادي عنوان للمدينة والمدينة عنوان للنادي، النادي ضاعف شهرة المدينة عبر حضوره الطاغي عالمياً وخصوصاً منذ مطلع الألفية الثالثة وتسابق القنوات الرياضية الفضائية في نقل انتصارات الفريق المتتالية، الأمر الذي ساعد في توسع دائرة المشجعين وزيادة أعداد محبي وأنصار النادي في جميع أنحاء القارات.
يتوافدون عنوة من أجل حضور مباريات “البرسا” والاستمتاع برؤية أجمل أسلوب في كرة القدم “تيكي تاكا” اللعب غير التقليدي، وهو الاستحواذ على الكرة بتمريرات قصيرة وسريعة، “هات وخذ” برسم مثلثات و مربعات بمساحات متعددة، إيقاع أرجل تشكل بالكرة علامات متحركة والاحتفاظ بها لوقت أطول، وذلك لسحب المنافس من ملعبه وتشتيته وإرهاقه في سبيل إيجاد الثغرة المناسبة نحو التمريرة القاتلة التي تستقبلها شباكه.
فن كروي تفرد به فريق برشلونة دون غيره من الفرق، ويعود الفضل في إيجاد هذا الأسلوب إلى اللاعب الأسطوري الهولندي “يوهان كرويف” الذي درب برشلونة، وانعكس أيضاً هذا الأسلوب الباهر على أداء المنتخب الإسباني الذي جله من لاعبي برشلونة، فقد أحرز بطولتين اوروبيتين متتاليتين، يورو 2008، و2012 وما بينهما كأس العالم 2010، إنجاز لم يحققه أي منتخب، هذا الأسلوب الفريد الذي تميز به فريق برشلونة، وكذا المنتخب الإسباني، كان مهندساه أفضل لاعبي وسط في العالم، إنهما الرسام “انييستا” والمبدع “تشافي” ثنائي شكل ظاهرة لعب “تيكي تاكا” الفريدة في ملاعب كرة القدم، وأثناء قمة عطائهما سواء في المنتخب أو النادي من يراهما يدهش من دقة التمرير والتصويب والخفة والحركة والتنقل السريع كأنهما وحدهما في الميدان، لم يكونا يلعبان، بل كانا يعزفان ألحاناً كروية أبهرت عشاق المستديرة في كل مكان.
إن بريق نجومية نادي برشلونة كفريق متكامل العناصر وانتصاراته المدوية، وخصوصاً بعدما حصد سداسيته عام 2009 بتحقيقه عدة ألقاب (بطولة الدوري الإسباني، كأس ملك إسبانيا، دوري أبطال أوروبا، السوبر الإسباني، كأس العالم للأندية، السوبر الأوروبي) إنجاز يفوق الخيال، لم يظفر بها أي نادٍ ٱخر منذ تأسيس كرة القدم لحد الآن، وها هو نشيد برشلونة يصدح في ملعب “كامب نو” وكل أرجاء المدينة ويتردد صداه إلى خارج إسبانيا.
“كل الملعب يهتف بصوت واحد “نحن شعب البلوغرانا، لا يهم من أين أتينا، من الشمال أو الجنوب، نحن الآن متفقون، نعم متفقون بعلم يجمع إخوتنا، صرخة البلوغرانا طيري إلى السماء، صرخة قوية، نحن لدينا اسم، كل العالم يعرفه، بارسا بارسا باااااارسا، الإداريون المشجعون، اللاعبون، كلنا اتحدنا لنجتاز سنين طويلة من العمل الشاق، بأهداف كثيرة هتفنا لأجلها، وها قد أظهرنا ها قد أظهرنا، بعدم وجود أحد قادر على قهرنا، الأزرق والأحمر صرخة البلوغرانا طيري إلى السماء، بصرخة مدوية، نحن لدينا اسم، كل العالم يعرفه، بارسا بارسا باااااارسا”، النشيد من تأليف “جاومي بيكاس” و”جوسيب ماريا اسبيناس” ومن تلحين “مانويل فالس جورينا”.
هذا الحضور المبهر لعباً ونتيجة وفناً وإبداعاً، رفع نسبة مشجعي برشلونة أضعافاً مضاعفة ليس في نطاق حدود إسبانيا بل في كل مكان من العالم، مما جعل من مدينة برشلونة مقصداً كروياً للسواح بشكل متزايد، يأتون من كل جنس وعرق ولون.
حماس التشجيع بلغ أشده بيننا، فتوجهت بعض مكاتب السفر في القطيف بتنظيم رحلات خاصة لمدة أربعة أيام لحضور مباراة حاسمة للبرسا، يعودون محملين بالذكريات ويعاودون الكرة لمشاهدة الكرة، سمعة النادي هي الجاذبة للمدينة.
نادي برشلونة نادٍ عريق، ميلاده قبل تأسيس ريال مدريد وقبل قيام كثير من دول عربية وأجنبية، فقد تأسس سنة 1899، فحمل اسم المدينة وعكس رياضتها بل قوميتها أمام الأقاليم الإسبانية الأخرى، سمعة ومكانة النادي تتجسد فيه الهوية المحلية، وبات رمزاً للثقافة الكتالونية، وعن المدينة تحلو سرد ذكرياتي.
تعود معرفتي شخصياً بها وبكل مقاطعة كتالونيا منذ عام 1979 حينما اشتريت نسخة من المجلة العربية الشهرية من مكتبة الساحل الذهبي بالقطيف ذات ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، وأثناء تصفحي وجدت استطلاعاً عن ابن كتالونيا الفنان العبقري “سلفادور دالي”، وحديث عن بلدته البحرية “فيغراس” شمال مدينة برشلونة، وأخذتني عبارة السرياليين “المجد للمخيلة” إلى فضاءات الفن والسفر، ورمتني ذات يوم لمتحف دالي الذي وثقته عن قرب.
أنظر لمدينة برشلونة من خلال عين مبدعة، أصحاب ريشة ذهبية وأصحاب أرجل ذهبية، وظلت عندي رغبة ملحة للتجوال في الأراضي الإسبانية منذ ذلك الوقت لرؤية آثارها الغابرة والوقوف على الآثار والكنوز الإسلامية، وبالفعل أتيحت لي الفرصة لزيارتها مرتين، الأولى صيف عام 2000 برفقة صديق العمر محمد الدرازي، والثانية عام 2018 برفقة العائلة، وكلا الرحلتين تم توثيقهما بكاميرا الفيديو والجوال، وحرصت في الرحلة الأخيرة على تصوير نادي وملاعب برشلونة، وكذا النادي الملكي وهالني ما رأيت من محتويات، لعدد وأدوات قديمة وعصرية وصور شتى! ومعلومات متفرقة لسنين خلت.
وأدركت أثناء تجوالي شيئاً مهماً، كيف استطاع هؤلاء البشر أن يولوا اهتماماً بالغاً بتوثيق كل صغيرة وكبيرة عن أيامهم وذكرياتهم الرياضية، ويحتفظون بأشياء لا تخطر على البال، ويجعلونها ذات قيمة وأثر وتكسب أهميتها مع تعاقب الزمن، أي فطنة تنبهوا إليها، بإبراز أشياء مادية تخاطب الوجدان، وتذر المال من أجل رؤيتها، قيمة أشياء قد تبدو عادية لكنها ترسخ عراقة المكان ووعي البشر المتحضر، حينها تأسفت لحالنا وحدثت النفس، كم نفتقد لـ “ثقافة التوثيق”، وكم ضيعنا الكثير من إرثنا على جميع المستويات.