نداء الحادي في القوافل

لابدَّ أنك ركبتَ يومًا مع جماعة في سفر، سررتَ وانبسطتْ ملامحُ وجهك في هذه السفرة مع الأحبة، مناظر ومشاهد ومسرات. وفي آخرِ يوم نغَّصَ عليك ما أحببتَ الاستكثارَ منه وكدَّر صفو مشاعرك قائدُ الرحلة: شدّوا الهمةَ واستعدوا للطريق، ولَملموا حاجاتكم، وجهزوا تذاكر سفركم، فأنتم عائدون! أفّ، بالكاد ثبتنا أوتادَ الخيمة واعتدنا تفاصيلَ المكان فإذا بالزمان والوقت يتحرك مثل قطعِ الضباب تبدده الشمسُ في العلوّ، زمنًا قليلًا وينفرج.

من أَحكم وأصدق ما قيل في الحياة وقصر أيامها ما قاله شاعرٌ بحراني من أهالي قريةِ دمستان ماتَ في بلدنا القطيف – الشيخ حسن الدمستاني – الذي توفي في سنة ١١٨١ هـ. بيتين قالهما في قصيدةٍ رائعة واعظة يصف فيها أحوالَ المتقين:

إن الأنامَ مطى الأيامِ تحملهم
إلى الحِمامِ وإن حلَّوا أو ارتحلوا

لا يولد المرء إلا فوقَ غاربِها
يحدو به للمنايا سائقٌ عَجِلُ

نولد في ظرفين، زمانٍ ومكان، فإن تغير المكانُ لبعضنا فيبقى الزمانُ واحدًا – فوق ظهر راحلة الأيام – وكأنه، رحمه الله، استقى البيتين من فمِ النبي محمد (صلى الله عليه وآله) الذي قال: “إن للهِ تعالى ملكًا ينزل في كلِّ ليلة فينادي: يا أبناءَ العشرين جدوا واجتهدوا، ويا أبناءَ الثلاثين لا تغرنكم الحياةُ الدنيا، ويا أبناءَ الأربعين ماذا أعددتم للقاءِ ربكم؟ ويا أبناءَ الخمسين أتاكم النذير، ويا أبناءَ الستين زرعٌ آنَ حصاده، ويا أبناءَ السبعين نودي لكم فأجيبوا، ويا أبناءَ الثمانين أتتكم الساعةُ أنتم غافلون. ثم يقول: لولا عبادٌ ركع، ورجالٌ خشع، وصبيانٌ رضع، وأنعامٌ رتع، لصُبَّ عليكم العذابُ صبَّا”.

وإذا كان ظرف المكان يعطي المولودَ فيه استحقاقَ الجنسية وربما الغنى والثروة أو الفقر المدقع، فإن الزمان، برأي الشيخ الدمستاني، لا يعطيه سوى أن يمتطيه نحو نقطةٍ واحدة تقررت سلفًا وهي المنايا التي يصلها الناسُ صغارًا وكبارًا، دون تراتبية، فقد يصل الصغيرُ قبل الكبير والسليمُ قبل المريض، فهذا الإمام علي ابن أبي طالب (ع) يختصر تراتبيةَ نداء وزعيق الحادي في القوافلِ بالمسير:

لا تَجْزَعَنَّ مِنَ الْهِزَالِ فَربَّما

ذُبِحَ السَّمِينُ وَعُوفِيَ الْمَهْزُولُ‏



error: المحتوي محمي