دعاء كميل سياحة روحية مع الله

دعاء كميل من الأدعية المشهورة والمؤثرة روحيًا ونفسيًا، وكثير من أبناء المجتمع يحرصون على قراءته، وخاصة في ليالي الجمعة، وفي منتصف شهر شعبان، تبعًا للروايات الواردة في فضله، باعتبار أن له أثرًا تربويًا على النفس، ولما يحويه من المعاني الرفيعة، كما أنه يزخر بالدروس العقائدية والتربوية، وله تأثير بالغ في تربية الروح، مما يجعل الإنسان في حالة توجه مع خالقه، وكأنه يعيش لحظات روحية تفكرية ينقله من العالم المادي إلى عالم آخر، لا يرى في ذلك العالم إلا نفسه وربه، من خلال استشعار تلك المضامين التربوية والكلمات الروحية والمعاني الدقيقة ولسلاسته على اللسان، ووضوح المعاني والفهم.

دعاء كميل أحد الأدعية الشريفة المنسوب إلى مولانا أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وكذلك ينسب حسب الروايات الواردة من طرق أهل البيت عليهم السلام إلى سيدنا الخضر (ع)، واشتهر هذا الدعاء المبارك باسم أحد صحابة أمير المؤمنين وهو كميل بن زياد النخعي، حينما رأى الإمام عليًا (ع) ساجدًا ويدعو بهذا الدعاء في ليلة النصف من شعبان “اللهم اني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء”، عندها تأثر كميل بالغ التأثير بهذا الدعاء وبكلماته العميقة، والعظيمة، التي تملأ الروح خشية من الله، وتعرف العبد على عظمة خالقه وكرمه وصفاته وأسمائه الحسنى وتكشف للعبد رحمة الله الواسعة ومد صبره وتحمله عليه، أمام تحدي وتجرؤ هذا العبد الضعيف على مولاه وخالقه، وما فيه من مناجاة وتوسلات من المقصر وهو العبد إلى المتفضل عليه وهو الله، بطلب العفو والغفران والتوبة منه ومن تلك الذنوب العظام، التي ارتكبها العبد في حق نفسه وحق العباد وحق خالقه.

كم نحن بأمسّ الحاجة إلى تغذية أرواحنا من تلك العبثيات والزلات الضارة للجسد والعقل والروح، الدعاء هو أهم وسيلة اتصال روحي بين العبد وربه، لأنه الغذاء الذي يصقل الطاقات الإنسانية، ويعد الدعاء المنظم الروحي للإنسان من الفوضى الفكرية والروحية التي يعيشها كل منا، فإذا برزت فرصة روحية استثنائية للمرء فلا يفوّتها عليه، لأنها لحظات تمنح الإنسان فرصة تصحيحية لكل مسارات حياته، ومحاولة إعادة ما يحتاج ترميمه أو بناءه، سواء كان الصعيد الفكري أو الروحي.

الشيطان يتموضع للمرء في أماكن كثيرة، وتحت عناوين مختلفة، قد تضعف من إرادة العبد أمام تلك المغريات الخادعة والمتوهمة للمرء أنه على الصراط المستقيم، هنا يأتي دور الدعاء العبادي والروحي، من خلال منح فرصة للروح للتوجه إلى خالقها والطلب منه في معالجة ما تم تدميره روحيًا وسلوكيًا.

قد يتذكر الكثير من أبناء المنطقة مرور مرحلة زمنية إيمانية اجتماعية جميلة على مجتمعنا القطيفي، بالتحديد في الحقبة الثمانينية من القرن الماضي، حتى أواخر التسعينات الميلادية، حيث كان يسود غالب مناطق وأحياء القطيف، من الحسينيات والمساجد والمجالس الخاصة والعامة من كل ليلة جمعة بقراءة دعاء كميل، بل تحرص على إحيائها، لما له من الأثر الطيب على النفس والروح والبركة على الفرد والمجتمع، باعتباره جانبًا عباديًا من العبادات التي أوصى بها القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وقد ورد في قول الله تعالى في [سورة الفرقان آية ٧٧] “قل ما يعبأ بكم ربي لولا دُعاؤُكم” وقوله تعالى في [سورة غافر آية ٦٠]: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، ولقد ورد عن الإمام الباقر (ع): “أفضل العبادة الدعاء”، وعن الإمام جعفر الصادق (ع): “الدعاء هو العبادة”. فالدعاء منهجية قرآنية راسخة، وكذلك الدعاء حالة فطرية عند الإنسان لأنه مركز إشعاع روحي بين العبد وربه.

فما نعيشه اليوم من طوفان من المتغيرات الحياتية، أثر سلبًا على روحية الكثير منا، فكان هذا الزمن شبيهًا لتلك المرحلة الماضية من الحقبة ما قبل الثمانينية من القرن المنصرم، حين كان غالب الناس منصرفين عن البعد الروحي، مما أنتج عنه حالة من قلة الوعي في الجانب الروحي والديني والسلوكي، وهذا بطبيعة الحال كون انعكاسًا سلبيًا على السلوك الاجتماعي والعبادي، فكان للبرامج الدينية في تلك الفترة الأثر الطيب في عودة المجتمع إلى فطرته الإيمانية، وخاصة برامج دعاء كميل، كان يشكل حضورًا متميزًا ويخلق أجواء روحانية ينبثق منها حالة إيجابية، من التجديد النفسي والروحي والعقلي والأخلاقي والعبادي، وكأن دعاء كميل حالة شحن للطاقات وشحذ للهمم الدينية والتربوية والاجتماعية.

فهل لنا من عودة لدعاء كميل، وإعادة تلك الأجواء الفطرية الإيمانية إلى قلوبنا ومجتمعنا، والعودة إلى تلك الأذكار المحتوية على المضامين الروحية العالية، ونعود مع المؤمنين ونردد بصوت خاشع مع المقرئ “يا نور يا قدوس، يا أول الأولين، ويا آخر الآخرين” وبعدها الإقرار بتلك الذنوب العظام المذكورة في الدعاء، وهي تشكل عبارة عن معظم أفعالنا وسكناتنا، وعندما تصل إلى مقطع المصير الحقيقي للإنسان “ولا يمكنه الفرار من حكومتك” يمكن أن يفر المرء من أمه وأخيه، ولكن كيف له الفرار من يد الله، وأين الفرار من قبضته، “وقد أتيتك يا إلهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي معتذرًا نادمًا منكسرًا مستقيلًا مستغفرًا منيبًا مقرًا مذنبًا معترفًا، لا أجد مفرًا مما كان مني ولا مفزعًا أتوجه إليه في أمري، غير قبولك عذري وإدخالك إياي في سعة من رحمتك”، ويأتي الإقرار بضعف العبد “يا رب ارحم ضعف بدني ورقة جلدي ودقة عظمي” وفي خاتمة الدعاء، يأتي التوسل بالرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء والتمني من الخلاص من تلك الذنوب العظام “يا سريع الرضا، اغفر لمن لا يملك إلا الدعاء، فإنك فعال لما تشاء”.

وفي الختام، فإذا كان هناك الإلحاح للعودة إلى الماضي وإحياء تراثه، فالأولى العودة إلى التراث الديني الروحي؛ لأن فيه تصحيحًا لمفاهيم حياتية وسلوكية وفكرية، نجعل منه انطلاقة تنويرية دينية، لأجل عودتنا لتراثنا التاريخي المشرف بالشكل الذي يليق به وبالماضي الجميل، وأهله الكرام الذين تركوه لنا ذكرًا طيبًا وأثرًا يضيء لنا الطريق في الماضي والحاضر والمستقبل.



error: المحتوي محمي