حبيبي اشتاقت له الجنة فطلبته واستحى كعادته أن يرد سائلاً، سنة كاملة على رحيل فارسي الوسيم.
مضت سنة كاملة على رحيل الفارس الوسيم؛ مضت بما حملته من متاعب وصعوبات؛ ورغم كلّ ذلك فقد تعودت على مواجهة الصعوبات ومقاومتها، فالمقاومة شجاعة أياً كان نوعها، والشجاعة متمثلة في عزمي دائماً على التحدي للخروج من بؤرة الإحباط والفشل؛ إلا أن فقده أثقل ظهري، وخارت بسببه قواي، فلم أعد كما كنت في السابق حتى أنني اعتزلت الكتابة لسنة كاملة، كانت كما الشبح في حياتي.
اليوم عدت من جديد كي أرثي من انقطع عنّا وصاله، ومن ضاق صدري لفراقه.
كُلنا نتكلم عن الحياة بثقة وكأننا نعرفها حق المعرفة أو نعلم ما نمر به، وفي الحقيقة أننا قد نعيش خوفاً عميقاً حين نفقد من كان يمثّل لنا الاطمئنان، ولا ندرك ذلك إلا حين نعيش الوضع حقيقة، وهكذا كان وقع فقد عزيزنا الغالي “رحمة الله تعالى عليه”.
أبي الذي هو ملاذي بعد الله تعالى قال لي يوماً: أي بنيتي ثقي بالله دوماً، وكل ما ترتجيه من الدنيا سيأتي في أوانه، وسيغمر الله قلبكِ المحزون فرحاً ونوراً، فتوكلي على الله دائماً، فكان كلامه لي كضياءٍ يُنير لي دربي في معترك الحياة.
اليوم وبعد عامٍ كاملٍ على رحيل من كان سندي وجوادي وعمادي وسما روحي ونفسي، أصبحت أقبض على يدي خوفاً، وأسير بخفيةٍ وترقب، وما أصعب خطوات الحيرة والوجلِ التي كنت فيها، شعرت بصفق الفؤاد ونفض الحشا، ولكني لبستُ أثواب الرجاء وبكيت مناديةً ربّ السماء: {أَنِّی مَسَّنِیَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّ ٰحِمِینَ}.
وها أنا وبجوار نبي الرحمة (ص) وعترته الطاهرة (ع)، أرمق السماء بنظرة رجاء كي يتبدد الحزن من قلبي، وتشرق شمسي من جديد، فما أحوجني إلى عمق الارتباط بالخالق سبحانه، وبأهل بيت العصمة (ع)، فذلك هو الصراط المستقيم الذي سيخرجني من حيرتي وألمي وحزني.
آه لفقدك يا ضياء بصري، فقد اغتالك الموت في عز شبابك وقوتك، وكم كنت أتكئ عليك في معترك الحياة، فتركتني وحيدة بين ذئابٍ هنا وهناك ، فيا إلهي كن رفيقاً بأمتك الضعيفة.
“محمد” ما الذي عجل برحيلك؟ كنت تعرف بأن الروح تعشقك؟
“فارسي الوسيم “إنني وبعد عامٍ كامل، ما زلت أتذكر تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم التاسع عشر من جمادى الأولى لعام ١٤٤١ للهجرة، والمصادف لذات اليوم الذي جمعنا تحت سقفٍ واحدٍ قبل خمسة عشر عاماً؛ في ذلك اليوم وعند اعتلاء صوت أذان الظهر كُنت حازمة أمتعتي شوقاً للقاء الحبيب الذي كان راقداً على السرير الأبيض، وكعادتي كل يوم من دخوله المستشفى، حيث كنت أطمئن على وضعه الصحي من الطبيب المشرف على حالته، وكم كنت أهمس في أذنيه بأن طال انتظارنا لك يا محمد فمتى يشرق نورك في بيتنا، فتبعث الطمأنينة وتعود الابتسامة في وجوه أطفالك، إلا أنه لبّى نداء ربه، ورحل عنّا تاركاً خلفه موجاً من الألم.
وما إن سمعت بذلك النبأ المفجع، حتى كادت نفسي أن تخرج من جسدي، كنت كما الطير المذبوح، الذي يتراقص آلماً، وتمنيت أن أدفن تحت الثرى مع فارسي الوسيم.
نعم أسميته فارسي الوسيم وأسميتّه الحب، وتارة العشق ورفيق الدرب؛ وكان يبتسم لي ويقول: “أنا فارسٌ بلا جواد”، نعم إنه كان يسابق الزمن للرحيل الأبدي.
آه يا محمد كنت آية عصرك، وقنديلٌ يستضاء به، واليوم أصبحت ذكرى يؤلمني فراقك، ولست أتخيل إلى الآن بأنك لن تعود أبداً.
أيها الفارس الجميل إنني كلما اشتقت إليك عدت بشريط الذكريات لأستلهم منك الطيب والحب والحنان والصدق والأمانة والعطف واليد البيضاء الممتدة بالسر والعلن فلك بكل جميل ذكرى جميلة كجمال روحك فسبحان من خلقك وصورك، فأنت يوسف عصرك، وسبحان من جعل حبك بقلبي بهذا المقدار، حباً تفيض به الدنيا بأهلها، فإلى متى يا فارسي سأظل متوسلة لقياك، فأنا دفنت أحاسيسي كلها تحت الثرى ومزقت أوراقي ودفاتري وهجرت الكتابة فلم يعد لحروفي أي معنى بعدك، لقد حرقت قلبي بغيابك، فما أعجلك على الرحيل يا محمد؟ لماذا جعلتني أتعلّق بك، ثم سرعان ما قطعت حبل الوصال، وقطعت السبل بيننا، لقد مددت شراع البعد واعتزلت عنا، فيا ترى من ذا الذي كدّر صفوك لتعتزل الدنيا.
لقد باتت أيامي مؤلمة من بعدك؛ فهل يا ترى أسترجع قواي وأنت لست معي؟
سأشكو الله القدير بأني بعدك ضيعت ذاتي، ونسيت كيف أذوق طعم حياتي.
إنني كلما ضاقت بي أوجاعي ناديت روحك يا محمد أرجع لي بعضاً من روحي.
يوماً ما وكما وعدتك سأخبر الجميع بقصة عشقك وكم كنت بروحك البريئة قلبت تاريخي، لقد أقفلت بعدك قفول الحب.
لقد توسدت قبرك طولاً لكي أمسح مدمعي، فياليت دموعي ترجعك.
عاهدتك بعد طول غياب أن أفرش الورد والريحان لقدمك، ولقد ذبلت الأرواح في انتظارك يا فارسي، وأصبحت يتيمةً بفراقك بل وضائعة.
ستبقى مقيّداً قلبي بحبك، وأنى لحبك أن ينتهي، لقد سرى حبك في كلّ كياني، فستبقى خالداً ما دام نبض قلبي.
والسلام عليك يوم ولدت، ويوم رحلت عنّا سريعاً، ويوم تبعث حياً.
رضاً بقضائك يا رب لا معبود سواك.
(الفاتحة لروح الشاب السعيد والمعلم الفاضل محمد جعفر الجارودي).