أحب الفلسطينيون المنتخب الإيطالي لفعل لم يقم به أي منتخب في العالم نحوهم.
أن يهدي الاتزوري فوزه بكأس العالم 82 للمقاومة الفلسطينية التي كانت محاصرة في بيروت الغربية من قبل بني إسرائيل، لهو انتصار معنوي للمظلومين الذين لا حول لهم ولا قوة، الطليان اسمعوا صوت المستضعفين جراء صمت المجتمع الدولي، غير عابئين بنقد الناقدين ولا تعليقات المتآمرين.
فيض مشاعر بين الراقصين بفنون الكرة والراقصين تحت لهيب النار! مقاومون في جوف الملاجئ عيونهم على العدو وعلى عدو اللاعبين، سكرة فرح بانتصار أحفاد الرومان.
أرواح تتخاطب وجدانيًا، ترسل التحايا لأرجل تقذف بالكرة في حرب مونديالية، ولأكف على الزناد في حرب عدوانية، قلوب عند بعض.
ما الذي دهاك أيها المقاتل الفلسطيني ، فأنت المحاصر من كل الجهات، معلق بين الحياة والموت، كيف وجدت فسحة من الوقت لمشاهدة مباراة في كأس العالم.
أي سحر استولى على العقول، ما هذا المتنفس الذي تقوم به كرة القدم، وتنسيك للحظات واقع حياتك المهددة بالانطفاء!
هنا نص يترجم مفعول سحر الكرة على النفوس:
“.. ونحن أيضًا نحب كرة القدم. ونحن أيضًا يحق لنا أن نحب كرة القدم، ويحق لنا أن نرى المباراة. لم لا؟ لم لا نخرج قليلًا من روتين
الموت؟
في أحد الملاجئ استطعنا استيراد الطاقة الكهربائية من بطارية سيارة. وسرعان ما نقلنا “باولو روسي” إلى ما ليس فينا من فرح. رجل لا يرى في الملعب إلا حيث ينبغي أن يرى، شيطان نحيل لا تراه إلا بعد تسجيل الهدف، تمامًا كالطائرة القاذفة لا ترى إلا بعد انفجار أهدافها.
وحيث يكون “باولو روسي” يكون الجول، ويكون الهتاف، ثم يختفي أو يتلاشى ليفتح مسارب الهواء من أجل قدميه المشغولتين بطهو الفرص وإنضاجها وإيصالها إلى أوج الرغبة المحققة. لا تعرف إن كان يلعب الكرة أم يلعب الحب مع الشبكة، الشبكة تتمنع، فيغويها ويغاويها بفروسية إيطالية أنيقة على ملعب إسباني حار، ويغريها بانزلاق القطط الهائجة المائجة على صراخ الشهوة.
وعلى مرأى من حراس العرض المصون الذين يعيدون إغلاق بكارة الشبكة بغشاء من عشرة رجال، يتقدم باولو روسي بكامل الشبق، يتقدم لاختراق شبكة قابلة للنيل من عضلة هواء مرتخية عجزت عن المقاومة، فاستسلمت لاغتصاب جميل.
كرة القدم، ما هذا الجنون الساحر، القادر على إعلان هدنة من أجل المتعة البريئة؟ ما هذا الجنون القادر على تخفيف بطش الحرب وتحويل الصواريخ إلى ذباب مزعج! وما هذا الجنون الذي يعطل الخوف ساعة ونصف الساعة، يسري في الجسد والنفس كما لا تسري حماسة الشعر والنبيذ واللقاء الأول مع امرأة مجهولة. وكرة القدم هي التي حققت المعجزة، خلف الحصار، حين حركت الحركة في شارع حسبناه مات من الخوف، ومن الضجر”.
من كتاب “ذاكرة النسيان” حيث يقول الناشر في الصفحة الأخيرة: “كتب الشاعر محمود درويش هذا النص الساخن عن يوم طويل من أيام بيروت عام 1982، بلغة متوترة وبأسلوب يجمع بين السردي والشعري والقصصي والاختياري”، لقد تقاطع الحب وجدانيًا بين القلوب فجاء إهداء الكأس الذهبية للشعب المقاوم.
تتراقص الذكرى في وجداننا بحبوحة عيش لنطل على الدنيا بعمر أصغر، وأيام الصبا حية طالما القلب نابض بالحنين.
في كأس العالم 82 كثير هي المنتخبات التي خيبت الظنون، ومن ضمنهم منتخب الأرجنتين الذي كان حافلًا بالنجوم، أتى وفي ظنه أنه سيعود بالكأس ثانية، لكنه لم يستطع الدفاع عن لقبه.
انفض السامر عن حمى كأس العالم، رحل من رحل وغادر من غادر، فكل المنتخبات بضجها وضجيجها اقلعت، صمتت هتافات الجماهير، وتوقف ردح اللاعبين، إلا الذين كانت العيون مسلطة عليهم من قبل وإبرازهم الفتى الذهبي.
مشاورات عقدت قبل المونديال لجلب مارادونا لصفوف نادي برشلونة، أبطأها الاتحاد الأرجنتيني لحين انتهاء مهمة المنتخب في كأس العالم الذي لم يكن مرضيًا على الإطلاق،
عاد نجوم “التانغو” متعبين منهكي القوى، نزلوا من الطائرة ومن التربع على كرة العالم طوال الأربعة سنوات الماضية، منتخب فقد الاحتفاظ بالكأس، وعاد خالي الوفاض، فانتهى جيل بأكمله ذو أسماء لامعة (أردلييس وكيبمس) انطفأ بريق نجوم 1978م.
جر حقائب وجر آهات، الفتى الذهبي يخبرنا عما حدث له في مونديال 1982 من خلال صفحات كتابه – أنا دييجو مارادونا: “احتفلنا بالفوز بمونديال 82 قبل أن يبدأ، والنتيجة مشاركة سيئة وإخفاق في أول كأس عالم لي، كنت أظن برشلونة الأفضل في العالم لكن صدمني رئيس النادي المختل، حطمت الكؤوس في “الكامب نو” بسببه واكتشفت إصابتي بمرض خطير، ودعت بوكا جنيورز وسافرنا إلى إسبانيا للمشاركة في مونديال 82 احتفلنا بفوزنا باللقب قبل أن تبدأ البطولة، كنا لانزال نعيش في نشوة 78، اعتقدنا أن مهمة الاحتفاظ بالكأس ستكون سهلة، لكن نسينا شيئًا مهمًا، لا يمكن أن تفوز دون أن تلعب، الفشل في أول مونديال، الإعداد البدني كان سيئًا، أقول هذا بوضوح شديد وأعترف به لأول مرة، كان هذا الخطأ الرئيسي، وصلت للمونديال منهكًا بعد موسم شاق، وأربعة أشهر في معسكر استعداد، كنت ميتًا دون طاقة وكذلك باقي اللاعبين، كان الأمر مؤسفًا، أول مونديال لي لكني فقدت التركيز وشعرت بالملل في المعسكر الطويل والعدوى انتشرت بين جميع اللاعبين، المباراة الأولى كانت أمام بلجيكا ويا له من فشل خسرنا بهدف، كل العيون كانت ترصدني فأنا اللاعب الجديد لبرشلونه، كانت الصفقة الأغلى في العالم في هذا الوقت، الكتلونيون دفعو 8 ملايين دولار لو لم أنجح معهم لقتلوني، عوضنا الخسارة في المباراة الثانية، انتصرنا على المجر 4 أهداف مقابل هدف واحد، سجلت هدفين، أول هدفين لي في كأس العالم، لم أشتك من الضرب بعدها انهالوا عليّ بالضرب أمام السلفادور لكننا فزنا (2 – صفر)، لم أشتك من الضرب لأنني لا أحب أن أظهر في صورة الضحية، لكن العالم كله كان شاهدًا على ما فعل بي (كلاوديو جنتيلي) في مباراة إيطاليا بالدور الثاني، خسرنا (2 – 1)، (جنتيلي) حصل على إنذار فقط، الجميع يتذكر النتيجة فقط لكن (جنتيلي) اعترف بعد سنوات طويلة بأن مهمته كانت ألا ألمس الكرة بأي طريقة، كلما لمستها ركلني في ساقي لكن العيب ليس منه العيب على التحكيم، خسرنا أيضًا من البرازيل هدفًا واحدًا إلى ثلاثة أهداف كلما شاهدت تلك المباراة في الفيديو أتاكد أننا لم نكن أسوأ منهم، تعرضت للطرد بعد أن ضربت (باتيستا) في خصيتيه في الحقيقة كنت أريد ضرب (فالكاو) بسبب تدخلاته العنيفة، مسكين (باتيستا)، كانت بطولة سيئة بالنسبة لي، لكني لم أعتبر ذلك فشلًا، منذ لحظة الخروج أردت مسح تلك البطولة من ذاكرتي والتركيز على النسخة المقبلة، وهو مونديال المكسيك 86″.
إنها شهادة صدق من قلب الفتى الذهبي بحرارة بوح لما حدث له في أول إطلالة مونديالية تناغيها همسة وجد:
أظنك يا ديجو تعلمت الدرس جيدًا، والأيام حبلى لمسلسلك المكسيكي القادم، وبدورنا نحتفي بذكراك وإن كنت تحت الثرى فأنت عصي على النسيان. ننثر باقات ذكرى بعيون الأمس، نستعرض أجواءنا وكيف كانت حين أبصرناك إعجابًا من خلال تلك العيون المتعددة بعدًا وقربًا وتقاطعًا. ومن أجواء أمريكا اللاتينية التي تنتمي إليها اعتزازًا وشغفًا والمصنفة في عالم الأدب بـ”الواقعية السحرية”، ها هو الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 2010، والمتخم بالعديد من الجوائز الروائي “ماريو فارجاس يوسا” البيروفي والذي كان مراسلًا في مونديال 82، يدلي برأيه عن سحر المستديرة: “إن كرة القدم تخلق حالة من الحنين اللاواعي لعالم مختلف عن العالم الذي يعيش فيه مشجع كرة القدم، ذلك العالم الذي قد يكون به ظلم وفساد ينساه خلال تلك الـ90 دقيقة، وما يعقبها من نقاشات”، نعم إنه نسيان بانتشاء حتى الثمالة، ما يفسد المتعة أحيانًا بعض اللاعبين المتهورين بعنف غير مبرر، وكذا المسؤولين النزقين الذين نقلوا بعضًا من قبح الواقع لعالم المستديرة، ولكنه كالزبد، تبقى كرة القدم جاذبة للعيون، وسحر لا يقاوم، الفتى الذهبي كبير سحرتها.