تدور المكحلة في يدها دوران السنين، تحكي تاريخ 77 عامًا هو عمرها؛ العمر الذي أمضت أغلبه وهي تحافظ على حرفة قديمة، ورثتها من نساء عائلتها، وکأن تلك المكحلة كانت ورثًا في يد الجدة حتى تصل للأم والعمات وأخيرًا لـ الحاجة عبدة العلي عباس علي آل عباس، بعد أن تعلمت صناعة الكحل العربي من نساء عائلتها، لتبقى تحتضنها كـ كنزٍ لابد أن يصان كي لا يندثر ويضيع كما ضاع غيره من بعض تراث الأجداد.
وعلى الرغم من أن صناعة الكحل تسرق من وقتها وجهدها جزءًا ليس بقليل، إلا أنها تأبى أن تتركها أو أن تتخلى عنها.
مراحل إعداد
تستخلص عبدة العلي الكحل من “لية الخروف” أو ما تعرف عند العامة بـ”الچفل”، وعن هذه المعادلة الغريبة بين بياض اللية وسواد الكحل، تقول: “أبدأ بتنظيفه وتقطيعه قطعًا صغيرة، وأضعه في وعاء على النار حتى يتحول إلى زيت ثم أصفيه، وأنقله إلى صحن على ثلاث حجرات، وأضع وسطه علبة كعلبة الدهن مثلًا، ثم آتي ببعض القطن وأغمس القطنة بالزيت وأشعلها بشمعة، حتى تنطفئ”.
وتمضي في الحديث عن بقية الخطوات: “بعد أن تنطفئ القطنة أتركها لتبرد، ثم أقوم بكشط المادة الناتجة عن حرق الزيت بريشة نظيفة، وأضعه في علبة عليها غطاء”.
طقوس وجهد
لعمل الحاجة العباس في كحلها، طقوس خاصة، فهو في سواده اتخذ من الليل وقتًا خاصًا لإنتاجه، تقول لـ «القطيف اليوم» : “أفضل أوقات العمل هو الليل أو بعد صلاة الفجر، تفاديًا لحرارة الشمس، ولأنني أحتاج مكانًا منشرحًا حين عملية الحرق فإنني اتخذت من سطح منزلي مكانًا لممارسة مهنتي”.
وبينت أن تلك الزجاجة الصغيرة التي لا يتعدى طولها طول إصبع الخنصر تحتاج إلى جهد حتى تمتلئ بالكحل، مشيرةً إلى أن صناعته تستغرق منها نصف ساعة على النار، ثم كشطه من الصحن يحتاج نصف ساعة أخرى، أما تعبئته هي الأصعب وتستغرق وقتًا مضاعفًا.
بين الماضي والحاضر
تحولات عديدة شهدها “كحل” عبدة العلي، فبعد أن كانت تستخدم الأوراق لجمعه سابقًا، وتبيعه في تلك القراطيس التي تجمعه فيها، ثم تنقله الزبونة إلى علبته الخاصة، أصبحت الآن تتكفل بتعبئته في زجاجات صغيرة قبل بيعه.
وبدأت العباس المنحدرة من بلدة سنابس، بيع كحلها قبل سنوات بربع ريال، ثم نصف ريال، والنصف تضاعف بعدها إلى ريال كامل، وبعد الريال أصبحت تبيعه بريال وربع ريال ثم ريال ونصف ريال، وتطورت الأسعار بعدها إلى خمسة ريالات ثم العشرة حتى انتهت لـ15 و20، موضحةً أنها تعتمد في شراء “الچفل” على أبنائها، وأن سعره أقل من 100 ريال، وهي تصنع من “الچفل” الواحد أربع زجاجات صغيرة من الكحل.
وأوضحت أم أحمد، أن الكحل الذي تصنعه هو الكحل البلدي القديم، أما المتعارف عليه حاليًا فهو -حسب وصفها: “أملح ولونه رصاصي ويسبب حرقة للعين كما أن له ملمسًا قريبًا من الرمل”.
الزبائن
تفتخر أم أحمد وهي تتحدث عن زبائنها، مؤكدةً أن هذا النوع من الكحل رغم قدمه ورغم أن كثيرين يرونه من التراث وآخرين استبدلونه بمنتجات أكثر تطورًا، إلا أنها مازالت تحتفظ بزبائن من كل مكان -حسب قولها-.
وتنفي عبدة العلي حصر استخدام الكحل على حواء فقط، فزبائنها يتنوعون بين السيدات والرجال، وتتفاوت أعمارهم بين الشباب وبين من هم أكبر سنًا، كما أن البعض يأخذه لأطفاله، مضيفةً أن بضاعتها “السوداء”، سافرت إلى أمريكا ومصر والعراق، وهي أيضًا تمتلك زبائن من أهالي البحرين والأحساء، إضافةً لأهالي محافظة القطيف.
وزينة أخرى
الحاجة أم أحمد التي تسكن في أحد أحياء تاروت منذ زواجها قبل عشرات السنين، لم تقتصر زينتها على الكحل العربي، فكما أن كحلها زينة خاصة لبنات حواء، كان لـ”تاروتها” زينة أخرى ولدت من بنات أفكارها، فهي صاحبة فكرة “زرنوق السعادة”، المعروف في تاروت، بعد أن طرحت الفكرة على شقيق زوجة ابنها في زراعة الورود وتشجير الممر الذي يضم منزلها، أو ما يعرف عند العامة بـ”الزرنوق”.
وزينة ثالثة لـ أم أحمد، تستغل فيها “اللية” أيضًا، لتصنع منها كريمًا خاصًا، بعد أن تقوم بإذابته ثم تضيف له دهن الورد ودهن الرازقي ودهن العنبر ودهن العود والمسك الأبيض والأحمر والأسود، وزيت خاص يطلق عليه اسم “المجموع”، وهو المكون السري لكريمها وهو ما يحول لونه للوردي، إلا أن وجوده أصبح نادرًا، وهي لا تتحدث عن صناعته كثيرًا فهي تعتبرها سريعة ولا تحتاج جهدًا مثل الكحل، وعن أسعار علبة الكريم أوضحت أنها كانت تبيعها بـ15 ريالًا واليوم وصل سعرها لـ35 ريالًا.
وفي ختام حديثها، تظهر أم أحمد اعتزازها بصنعتها التي تصف نفسها بالمنفردة فيها، وتقول: “لم أسمع عن أي سيدة في محافظة القطيف عمومًا تمارس صناعة الكحل حاليًا، ولا حتى قبل سنوات طويلة سواي”.
فيديو كيفية صناعة الكحل:
كحل الحاجة عبدة العلي: