عبق الماضي لا يزال فواحاً

أتذكر من ماضينا الجميل كيف كان بعض أقاربنا وأهالي بلداتنا يولمون بين فترة وأخرى ويدعون أحبتهم من الأرحام والأصدقاء والجيران وبعض المعارف على وجبة غداء أو عشاء في مجلس عام، والمناسبة هي فقط الاجتماع والأنس بالحضور.

كانت بحق لفتة رائعة عاشها من واكبها في أجواء من الألفة والتلاحم الأسري والمجتمعي، وشدَّت من الترابط بين الأفراد والأسر خاصة في مجتمعاتنا القروية الصغيرة، مما عزز التواصل  فضلاً عن توسيع دائرة العلاقات وتعاضدها، بحيث كان المجتمع آنذاك يمثل أسرة واحدة بحق وحقيقة.

لهذا لم يكن أحد يشعر بالغربة، وقد شاهدت كما الكثير مثلي كيف كانت بلداتنا آمنة وبيوتاتها مفتوحة على بعضها، حتى أن منها وبسبب تلاصقها وعدم وجود شوارع أو أزقة فاصلة يكون بيت الجار معبراً لبيت الجار الآخر، ولا بأس ولا حرج بعد الاستئذان بالعبور، حفظاً للخصوصية واحترازاً للستر، ثم السلام عليكم وعليكم السلام، وصبحكم أو مساكم الله بالخير.

اللقمة كانت مشتركة، والحاجة الناقصة يوفرها الجار أو القريب لجاره أو قريبه حتى في الجزئيات المتواضعة من لوازم الطبخ وأدواته وخلاف ذلك، وهذا حال الجنسين كما هو حال الأطفال والذين كانت تعج بهم الشوارع والزرانيق يومياً في مرح وسعادة وتواصل دائم، فلا غرابة أن ترى العلاقات المستمرة والمتواصلة إلى اليوم هي من بقايا ذلك الزمن الجميل والذي نتذكره ونتحسر عليه وعلى أهله.

فهل يمكننا وقد تعصرنَّا وتعنصرنا وشغلتنا الحياة بعد أن أخذتنا إلى غير ما يجب أن نكون وتكون عليه، ووصلت بنا إلى تباعد مستشرٍ وطبقيات زائفة وزائلة نتنازع فيها على حضور باهت ووجاهات مقيتة قضت على التواصل بأشكاله وخاصة صلة الرحم فضلاً عن العلاقات والصلات الأخرى اجتماعية أو صداقاتية، وهي وإن وجدت فإن الحرص عليها يكون آخر الاهتمامات وحسب ما تقتضيه المصالح الوقتية، فمن أقل خلاف وعلى أتفه الأسباب يحدث التنازع وتدب البغضاء وتسير الأمور نحو خصومة لا تنتهي للأسف.

ليتنا نعتبر من الماضي ونأخذ منه الجميل وكله جميل، وإلى وقت قريب لولا التغريب الذي أخذتنا له الحياة الآن حين انقلبت وأغفلنا بسببها أصالتنا وعاداتنا وتقاليدنا والتي مهما غفلنا عنها تبقى هي الأصل الحقيقي لإنسانيتنا الحقة التي كانت تعيش على فطرتها، تلك الفطرة السليمة والتي هذبتها السماء وجعلتها في أحسن صورة، وهي وإن حاولت عجلة الحياة العصرية وتحاول أن تستخف بها وتقضي عليها وتستبدلها بأوهام لا حقيقة لها ولا واقع، فإنها باقية، ولا تحتاج منا سوى أن نرجع بها لماضينا ونأخذ منه ما تبقى ونمارج بينه وبين حاضرنا بوعي وحكمة، ونشعل جذواته، ونحيي جماله القديم بتجديد قويم لا عديم النفع والمعنى والهوية.

نعود نترابط.. نتواصل.. نصلح من بعضنا مفاهيمنا ونحافظ على قيمنا الأصلية.. نصل أرحامنا.. جميع أرحامنا بعيداً عن التكلف والتمييز، نصادق ونتصادق مع بعضنا، ونحافظ على لحمتنا المجتمعية، وليكن الواحد منا صديقاً لكل أحد بالتواصل الدائم والابتسامة ونشر السلام والمحبة، علينا أن نعمل على خدمة مجتمعاتنا والانضمام لأي فعالية مجتمعية، ونؤسس لأي توجه يصب في صالح العام، ونثق في بعضنا، فكل فرد فينا لديه طاقات وإمكانيات يمكن توظيفها، ليس هناك تمايز كبير بيننا، ومتى ما وظفنا إمكانياتنا وسخرناها لخدمة بعضنا وحافظنا على حسن علاقاتنا جعلنا من مجتمعاتنا مجتمعات مثالية وفاضلة، قائمة على المحبة والتسامح والإخاء وعادت بنا إلى الزمن الجميل، وبذلك لن يكون بيننا غريب ولا فقير ولا محتاج ولا عداوة ولا بغضاء، وسوف نعود لنكون أسرة واحدة وعلى دين واحد وقلب واحد وفي قارب واحد يسع الجميع وبدون تمييز.



error: المحتوي محمي