لكل جيل ذكريات قد تختلف مراحل الذاكرة من ظرف لظروف ووقائع كثيرة، أنا الآن أسمع صوت المطر بكل أبعاد معانيه “الهَزِيم، الجوَرٌّ، الجلجل، الرز” وأشم رائحة طين الأرض المختلطة بماء المطر، تعود بي ذاكرتي لتلك “المخدات والدواشق” المساند والمفارش ورائحتها الرائعة حينما تختلط بماء المطر في حسينية العوى التي تعتبر من أقدم الحسنيات بحي المدني بالقطيف.
هذا الحي المتوسط بحجمه مقارنة بغيره من الأحياء السكنية الأخرى يحده من الغرب سوق الخميس وشرقاً حي الجراري وحي مياس جنوباً وحي الوسادة شمالاً، لا اعلم بالضبط ما سبب تسميته بهذا الاسم، إلا أن الكلمة مشتقة من المدينة لكون الساكن بها متمدناً أو مدنياً.
هنا في هذا الحي الجميل بأهله عاش رجل مؤمن (الملا مهدي العوى)، لديه يد في بعض العلوم الروحانية المفيدة، كان له وقع شديد لأهل البيت عليهم السلام ومجلسه لا يخلو من التعزية، لا سيما في ليالي الجمع، ورث عن أبيه منزل وحسينية في الحي المذكور.
التقيته لأول مرة في شهر محرم مع والدي حفظه الله، حيث كان يقرأ عنده ليالي عاشوراء الحسين عليه السلام، وما أجمل هذا الإنسان خَلق وخُلق، إنسان بمعنى الكلمة وروح عالية وشريفة، رجل ورع لا يغتاب أحداً ولم ينتقص من أحد، وكان متواضعاً كريماً مجلسه مفتوح في معظم الأوقات يستقبل من يأتي إليه.
الحاج الملا مهدي بن الملا عبد الله بن محمد بن سلمان العوى القطيفي الحريفي، ولد عام ١٣٤٦ هجري، نسبة الحريفي أخذت من حي الحريف، أحد أحياء القطيف القديمة الذي اشتهر بالجبل قريباً من بلدة القديح والبحاري، سكن في حي المدارس ذاك الحي المشتهر بالعلماء “ذكرته في مقال سابق”، تعلم في الكّتاب ثم التحق بشركة أرامكو السعودية فترة قليلة وعمل كاتباً لدى تجار القطيف، وزاول العمل بحملدار مع أخيه (أحمد العوى) الشاعر المعروف “كتبت عنه مقال مطول”، ومارس التجارة (البيع والشراء) فترة ما ثم تركها.
كما ذكرت سابقاً لقد ورث من أبيه الحسينية وقام بإحيائها على نفقته الخاصة خمسين سنة، حيث كانت له كل ليلة جمعة (عادة) يحيي ويقيم بها مراثي ومواليد أهل البيت عليهم السلام، وكذلك الإحياء الدائم لأشهر محرم وصفر ورمضان وبقية أشهر السنة، كثير الولع بذكر وتعزية الحسين عليه السلام.
كان محبوباً جداً يقصده بعض العلماء والفضلاء، وله علاقات قوية واجتماعية معهم ومنهم العلامة الشيخ فرج العمران رحمه الله (1321ـ 1398هـ) يأتي ليلة الجمعة ويحتفل بدعاء كميل والزيارة الجامعة ثم القراءة ثم تعليم الأحكام الشرعية، وكان أيضاً ملازماً للعلامة الشيخ محمد تقي المعتوق رحمه الله (1336ـ 1358هـ)، حيث يقضي معه مدة طويلة قرابة العشرين سنة تقريباً يجالسه لأكثر من ساعتين بمنزله أو بالحسينية أو بدكانه “بقالة” كل يوم، وكذلك المرحوم الشيخ إبراهيم الغراش (1361ـ 1436ه)، الشيخ محمد حسن المرهون رحمه الله (1344ـ 1425هـ)، والخطيب الحسيني صادق الشيخ منصور المرهون (1347ـ 1424ه) وملا على الطويل رحمه الله (1434ه)، ووالدي الخطيب الحسيني محمد علي آل ناصر حفظه الله (1359ه)، وكثير من خطباء القطيف وأهل الفضل ووجهاء القطيف، مع أنه كان على حافة الفقر ولكنه مقصد الفقراء الأرامل واليتامى وإذا أتاه فقير يعطيه دون تردد، وإن كان لا يملك إلا القليل فلا يرد أحداً أبداً وقد تكفل ببعض اليتامى ذو صلة رحم به إلى أن صلح حالهم.
درس كالكثير من جيله في “الكّتاب” وعند أبيه في بعض العلوم الروحانية المفيدة (الرقية الشرعية) وبعض الفوائد التي اشتهر بها في جميع مناطق المملكة، وخاصة القطيف وصفوى وسيهات وعنك والأحساء والرياض، لديه فتوى بجواز عمله من المرجع الديني عندئذ آية الله السيد محسن الحكيم (1889 – 1970) قدس سره، وعمل أيضاً بقراءة النسخة “الفخري” وقراءة المواليد والتصديقة “مجموعة مواعظ عن الحياة والموت”.
أكثر ما اشتهر بالروحانية وفك الفال ومئات الناس استفادوا منه رحمة الله عليه، كان من الرجال الورعين الزاهد بالحياة، من شدة خوفه من الله عز وجل كان إذا تعرض لقرص حشره أو نملة لا يقتلها بل على العكس من ذلك ينتشلها ويلتقطها بتأنٍ ويخرجها بالخارج أو يضعها في أي حوض للزراعة.
تزوج ثلاث زوجات وأنجب أربع بنات وعشرة ذكور من أولاده ملا أحمد صالح، والمرحوم الحاج عبد الله، ومحمد ميرزا، والحاج حسن، والحاج علي، والأستاذ ملا إبراهيم، والحاج حسين، وقاسم، وصالح، وأحمد، وبناته: أم علي بن حسن المخرق، وأم جعفر بن عادل الصفار، وأم حسن بن علي العصفور، وأم حسن بن علي البشراوي.
توفي في ٢٧ صفر ١٤١٩ هجري في كربلاء المشرفة، ودفن في مقبرتها المباركة.