استرجع أقدم معلم في بلدة البحاري عيسى اعفيريت، الذكريات مع التعليم على مدى أكثر من خمسين عامًا حرص فيها الطلاب على جني ثمار العلم والمعرفة، وتفانى المعلم خلالها من أجل إنارة الطريق لأجيال المستقبل وتحمّل أعباء كثيرة.
وأزال “اعفيريت” اللثام عن بعض هموم التعليم، وذكر مقتطفات من رحلة عمله على مدى خمسة وثلاثين عامًا متنقلًا بين مدارس محافظة القطيف التي لم يتعلم فيها ولكنه علّم فيها الأجيال، وكشف الكثير من ذاكرة التعليم في المدارس القديمة التي عمل بها منذ أكثر من خمسين عامًا، وبداياته الدراسية والعملية.
قضى المعلم “اعفيريت” أعوامًا كثيرة في خدمة وطنه ومجتمعه حتى وصل به المطاف إلى سلم التقاعد ولا يزال نهر عطائه متدفقًا ونبع حكمته متجددًا وإلهام أفكاره مستمرًا، فها هو يبدأ عامه الثمانين وهو بنفس النشاط والهمة وروح الشباب التي بدأ بها حياته، فلم تزده سنوات خدمته الطويلة ولا تجربته الكبيرة إلا رغبة في العطاء وحبًا في العلم والعمل.
نشأته
ولد عيسى محمد اعفيريت في عام 1361 هجري وسط بيت شعبي في بلدة البحاري، وعاش مع والده محمد اعفيريت أبو عيسى “رحمه الله” المعروف بالصلاح والتواضع وحب الخير، فكان ملازمًا لوالده في مرحلة الطفولة المبكرة ومعجبًا بتفانيه وجدّه وصبره على مشقة العمل.
كان والده يعمل فلاحًا، فأغلب الناس في تلك الحقبة كانوا يعملون بالزراعة طوال النهار، فعمل بالزراعة مع والده في نخل المسمى “ضاحية أحميدان” الواقع في ساحة بلدة البحاري، وهذا النخل معروف بخصوبة الأرض ووفرة المياه فيه، حيث ضم عائلته الصغيرة التي كانت تقطن فيه في فصل الصيف لعدم توفر الكهرباء في ذلك الوقت، فكان الملاذ الآمن لهم.
طفل وحيد
اهتم به والده اهتمامًا كبيرًا كونه الابن البكر له والوحيد قبل ولادة أخيه المرحوم عبد الله “رحمه الله”، عاش أكثر من خمسة عشر عامًا من دون أخ، فحرص والده كل الحرص على أن تكون نشأة ابنه نشأة دينية، فتعلم القرآن الكريم في الكتاتيب، كما تعلم نطق الأحرف الهجائية والكتابة عندما بلغ اثني عشر عامًا على يد المعلم والمربي الفاضل الملا علي بن ربيع البحاري “رحمه الله”.
وتسببت نظرة والده التشاؤمية إلى المدارس التعليمية وخوفه عليه، في حرمانه من بناء مستقبله الدراسي وإجباره على تعلم الخطابة، حيث اصطحبه والده إلى الملا حسن المقيلي القديحي “رحمه الله” لكي يتعلم أساسيات الخطابة ليصبح خطيبًا حسينيًا، وذلك لرغبة والده في تحقيق حلمه الوحيد بأن يكون في العائلة ملا.
حلم يتحقق
ودارت الأيام والشهور وتعلم الابن عيسى الخطابة وصعد المنبر الحسيني وهو ذو ثلاثة عشر عامًا مبتدئًا كصانع للملا حسن المقيلي بعد حفظه للأبيات النبطية والعربية بسرعة فائقة، متنقلًا مع معلمه من مجلس إلى آخر وواصل القراءة لمدة عامين متواصلين.
وهاجر به أبوه من مسقط رأسه بلدة البحاري إلى الظهران للسكن والعيش هناك، وذلك لظروف عمل والده في شركة أرامكو في ذلك الوقت، وكان آنذاك في السادسة عشرة من عمره، وأتيحت له الفرصة ليعمل مع أحد المقاولين في شركة أرامكو جنبًا إلى جنب مع والده.
صنع المستقبل
دخل مدرسة الظهران الابتدائية الليلية في سن السابعة عشرة وهو على رأس العمل، بتشجيع من صديق والده الذي كان يعمل معه، والذي نصحه بذلك خوفًا عليه من ضياع مستقبله، وهنا تدخلت الواسطة بينه وبين والده وتمت موافقة الأب على دخوله المدرسة.
وتحقق حلمه ورغبته في مواصلة الدراسة وهو شاب في مقتبل العمر، حيث تم قبوله الفوري في المدرسة وصُنّف في الدخول مع طلاب الصف الخامس الابتدائي بحكم أنّه يجيد القراءة والكتابة، ورغم ذلك لم ينقطع عن العمل إلا عند دراسته في معهد المعلمين.
في معهد المعلمين
التحق بمعهد المعلمين بالدمام ودرس فيه ثلاث سنوات، ثم عيُن معلمًا في مدرسة عمر بن الخطاب الابتدائية بالثقبة، وكانت هي أول محطة عملية له في التدريس ودرّس فيها سنة واحدة، وكان أول راتب يتقاضاه أربعمائة وخمسون ريالًا، وكان باقي المعلمين جميعهم من الجنسيات العربية إلا هو والمدير والوكيل فقط، وبعد مضي عام توقف عن التعليم رغبة في الحصول على شهادة أعلى، وواصل الدراسة في مركز الدراسات التكميلية بالرياض سنة 1386 هـ، وكانت مدة الدراسة ثلاث سنوات.
وجاء تعيينه في المدرسة الابتدائية بأم الحمام، وذلك بعد التخرج في المركز مباشرة، ، وقام بالتدريس فيها ثمانية أعوام، وكان المعلمون في ذلك الوقت لا يحملون مؤهلات تعليمية ومعظمهم أجانب من الجنسيات العربية فمنهم فلسطيني ومصري وأردني.
وتذكّر ذهابه من بلدته البحاري إلى أم الحمام بدراجة نارية (دباب) لقلة المواصلات في ذلك الزمان لكي يواصل مهمته التعليمية بكل تفانٍ وانضباط، وبعد هذه المدة التعليمية جاءته الرغبة في إكمال الدراسة وواصل تحصيله العلمي والتحق بالكلية المتوسطة بالدمام.
وقال “اعفيريت”: “كان ذلك في عام 1397 هجرية وأكملت فيها ثلاث سنوات وبعدها تم تعييني في مدرسة ذات الصواري بأم الجزم بمحافظة القطيف سنة 1400 هجرية، وتخصصت في العلوم والرياضيات، وعملت فيها ثمانية عشر عامًا ما بين معلم ثم وكيل ثم مدير للمدرسة بين موقعها الأول والثاني الذي يقع في منطقة البحر”.
وأضاف: “وفي عام 1418هجرية تم نقلي إلى مدرسة الحسن بن علي الابتدائية بجزيرة تاروت، وأثناء دخولي المدرسة رأيت المبنى قديمًا متهالكًا، حيث تم بناؤه في عهد الكوريين قبل أكثر من خمس وأربعين سنة من ذلك الوقت، وكان عدد الطلاب يتجاوز ستين طالبًا وجميعهم كبار في السن تتراوح أعمارهم بين 12 و15 سنة، وكانت المدرسة وقتها محدودة الإمكانيات فصولها متصدعة الجدران وأسقفها لا تمسك ماءً ولا تقي بردا وسمبوراتها السوداء تركت على أسطحها علامات الشيخوخة، فصار من الصعب الكتابة عليها أو القراءة”.
وتابع: “عملت للمدرسة صيانة شاملة بمساعدة أحد رجالات بلدة تاروت الذي كان يعمل وقتها مقاولًا لبناء البيوت، حيث تكفل بالأيدي العاملة وأحضرت المواد من إدارة التعليم، فأصبحت المدرسة بفضل الله ذات مظهر جميل وراقٍ، بعدها قام الكثير من الطلاب بالتوافد على المدرسة حتى أصبح عدد الطلاب مائتين وخمسين طالبًا، وكانت هذه المدرسة هي آخر محطاتي العملية حتى وصل بي المطاف إلى ميناء التقاعد، وذلك في عام 1421 هجرية”.
طلاب الأمس واليوم
وبيّن أن مستويات الطلاب التعليمية لم تكن جيدة بالشكل الكامل، فبعض خريجي الثانوية في الوقت الحالي لا يجيدون الكتابة والقراءة ويجهلون الكثير من القواعد الإملائية، وتركيز الأغلبية منهم هو الحصول على الشهادة والالتحاق بالوظيفة، بينما كان في الماضي لدى الطالب شغف وتشوق للتعلم ومحبة لاكتساب العلم، وكان ولي الأمر يمنح جميع الصلاحيات للمعلم، وكان أهم شيء عند ولي أمر الطالب هو اكتساب ابنه العلم، وقراءة القرآن الكريم وحفظه”.
واستطرد: “التعليم في الماضي كان يهدف إلى تعليم الطالب جميع العلوم بكل تفاصيلها، فكان المعلم بالماضي هو الأب وهو المعلم وهو ولي الأمر الناهي في حياة الطالب، وكان الطالب يقدس كلمة المعلم ولا يجرؤ على التطاول عليه، فالمعلم في زماننا كانت له هيبته وقيمته فكان يحمل رسالة قوية وثقيلة فوق كتفيه ويسعى جاهدًا إلى توصيل المعلومة إلى الطالب بكل دقة، والتعليم قديمًا كان مبنيًا على أساس المعرفة وأدواته بسيطة ولا يمتلك الكثير من الإمكانيات التي نشاهدها هذا اليوم”.
وأوضح أن المتغيرات التي تواجه عملية التعليم والمعلم هي؛ التطور التكنولوجي، وثورة التقنيات، وربط المناهج بالحياة في عصر المعرفة، فذلك يقتضي إدارة قدرات الطلاب وتنمية المهارات العليا للتفكير لديهم، كما يقتضي إعداد المعلم معرفيًا ومهنيًا ليتمكن من ذلك بتميز ويواكب المتغيرات باقتدار.
وأردف: “والحمد لله لقد أولت الدولة رعاها الله عناية فائقة بالتعليم، حتى أصبحت منارة مشرقة في هذا الباب في تطور مستمر ونهضة متواصلة ومواكبة للمتغيرات الحديثة”، مشيرًا إلى أنه تقع على الطلاب مسؤولية كبيرة في العملية التعليمية فهم عصب التعليم وقلبه النابض والأمل بهم كبير، وهم قادرون بإذن الله على تحقيق أفضل النتائج في المدارس والجامعات ليكونوا مشاعل نور وعلم يضيئون مجتمعهم ويحملون راية وطنهم في الآفاق، متمنيًا لهم مسيرة مشرقة مكللة بالنجاح والتوفيق.
ونوه إلى أن دور الأسرة كبير بتشجيع أبنائها والوقوف معهم، فالأسرة النموذجية هي التي تتعاون مع المدرسة لصناعة الأجيال وبناء العقول ليحقق التعليم أفضل نتائجه وتضيء أنوار سماء الوطن.
وأكد أنه يؤمن بأن التعليم أمانة ورسالة، ولذلك قرر أن يكون معلمًا فاتجه للتعليم وخصوصًا الصفوف الأولية، حيث يجد متعة كبيرة في تعليمهم لأنهم يأتون إلى المدرسة وهم مثل الثوب الأبيض، مبينًا أنه يشعر بسعادة كبيرة في كل عام دراسي عندما يجد الطالب تعلم أن يقرأ ويكتب بطلاقة، لافتًا إلى أنه ما زال يحب التعليم.
وذكر أنه لم يواجه عقبات بالمعنى العام، ولكن كانت هناك بعض الأشواك التي اعترضت طريقه فكان يزيلها من منطلق أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة.
معلم الأمس واليوم
وقارن بين معلم الأمس ومعلم اليوم، وطالب الأمس وطالب اليوم، مبينًا أن معلمي اليوم والأمس كلهم معلمون ولا فرق بينهم سوى في العطاء والجهد المبذول وتقوى الله والإخلاص في العمل من المعلم قديمًا أو حديثًا، وبالنسبة للطالب قديمًا وحديثًا فهو نفسه والفرق يتمثل فقط في الاجتهاد والاحترام والتقدير للمعلم، فطالب الأمس لم تكن عنده تلك الملهيات، بعكس طالب اليوم الذي تتوفر لديه الكثير من الملهيات كالجوال والإنترنت.
وأكد أنه يجب أن يتصف المعلم برحابة الصدر، وتفهّم حاجات الطلاب وخصائصهم النفسية والاجتماعية والعقلية ومراعاتهم، والصبر وطول البال وحسن التعامل والحنّية والعطف، كما يجب أن يكون معدًا إعدادًا تربويًا مناسبًا، مشيرًا إلى أن طرق التدريس تختلف من صف إلى آخر بحسب الخبرات، ضاربًا مثالًا بالقاعدة التي كان يتبعها في تعليم الصف الثاني الابتدائي وهي “العب وتعلم”، فمن خلال لعبه مع الطلاب أوصل لهم المهارات التي يريدها.
وتحدث عن طريقة لتهيئة الطالب للمدرسة، وهي غرس روح التنافس وحب التعارف وبناء الصداقات بين الطلاب، بالإضافة إلى حب الانضباط في الدوام المدرسي، وحب التفوق الدراسي، وحب الظهور الإعلامي من خلال الإذاعة المدرسية والأنشطة والفعاليات التي تقوم بها المدرسة.
القدوة
وذكر أن المعلم جعفر رضوان أبو موسى، من بلدة أم الحمام، كان قدوة وموجهًا ومعلمًا، ومن النماذج التي تركت بصمة إيجابية في حياته، أما الطالب الموهوب المتميز الذي لا ينساه فهو الطالب المثالي والموهوب الدكتور حسين السويكت، من القطيف.
وقال إنه قابل في رحلته التعليمية كثيرًا من المواقف المؤثرة في المدرسة مع الطلاب، ومن بين هذه المواقف هناك موقف لن ينساه وهو أن أحد المعلمين من الجنسية المصرية ضرب طالبًا من الطلاب وحمله ومسح به السبورة ورماه في سلة المهملات، فهذا الموقف آلمه كثيرًا، خصوصًا عندما أحضر إلى المدرسة في اليوم التالي ولي أمر الطالب فوجد الطلاب قد حضروا إلى المدرسة مستائين ومنفعلين من تصرف ذلك المعلم، فأحضره “اعفيريت” حينها كونه مدير المدرسة وتم التحقيق معه واتخاذ الإجراءات النظامية بحقه، ورفعت أوراقه إلى إدارة التعليم فقاموا بفصله وترحيله إلى بلاده على الفور.
وأفصح عن أن تركه الميدان التربوي كان خطوة صعبة بعد أن قضى هذا العمر بين الأجواء المدرسية، ولكنه حمد الله على ذلك، معتبرًا مرحلة التقاعد مرحلة حرية التصرف دون ارتباطات عملية، فهو يقوم بأعماله الخاصة.
وشدد على عظم مكانة الوالدين قائلًا: “الوالدان هما أجمل ما في هذه الدنيا”، مبينًا أنه يؤمن بالحكمة التي تقول “كن في هذه الحياة كأنك غريب أو كعابر سبيل”.
وأوضح أن هناك أحداثًا كثيرة مر بها في حياته، وأهمها بالنسبة له مرور موكب الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود “طيب الله ثراه” إلى بلدة البحاري قادمًا من الظهران ذاهبًا إلى رأس تنورة، لأنه كان أحد الجمهور الذين استقبلوا سموه.
ووجه في نهاية حديثه، عددًا من الرسائل قائلًا: “أوجه رسالة إلى إخواني وأبنائي المعلمين بأن يتقوا الله في أبنائهم الطلاب ويحرصوا على توصيل المعلومة بالطريقة الأسهل”، كما وجه رسالة إلى أولياء الأمور بأن يتابعوا أبناءهم ويكونوا عونًا لهم بالمتابعة المستمرة والتردد على المدرسة والسؤال عنهم في كل الأمور.
ووجه رسالة أخرى إلى أبنائه الطلاب بأن يجتهدوا في دراستهم ويستخدموا جميع الوسائل التي تساعدهم في التحصيل العلمي لأنهم يعيشون في عصر ذهبي وكل المعلومات بين أياديهم.
وأخيرًا، شكر «القطيف اليوم» قائلًا: “كلمات الشكر لا توفيكم حقكم، فقد أظهرتمونا للمجتمع، فجزاكم الله كل خير، وأسال الله لكم التوفيق”.