مائدة أمي والدهشة.. 15

لم يكن مزاجها على ما يرام، ألقيت عليها السلام، تأملت ملامح وجهي، حديثها، كأنه نبض عينيها، همست في أذني: يا ولدي، لنذهب إلى البحر، كم، أشتهي أن أكون معك، نرفه عن أنفسنا، نبتعد عن ضوضاء الصغار، وألعابهم.

خرجنا سويًا، فتحت نافذة السيارة، لتلثمنا هبات الجو الباردة، أوقفت السيارة في كورنيش الناصرة، نزلنا، جلسنا في مقابل البحر.

تقول أمي: يا ولدي اتخذ من الصت سبيلًا، واقرأ أفكار الآخرين، وتأمل ألوان أمزجتهم، وتقلباتها، وكن أنت الرابح الأول.

حدقت مليًا، قرأت أحرفها بصمت، تغلغلت فيها، لأفك شفرتها، وبينما كنت أفكر، ماهي إلا ساعة، لم أشعر بدقائقها، تمر بلا يقظة، مع الدقائق.

هل فطنتِ أماه، بما أعانيه في ذاتي، بقلب الأم، الذي يشعر بفلذة كبده، أو ما يُطلق عليه مجازًا “الحاسة السادسة”، وقتها، أمسكت بيدي، لنعود إلى المنزل، عُدنا، ولم تكن العودة جميلة، كجمال ذهابنا إلى ضفة البحر.

لماذا هذا التشاؤم؟ لست مُتشائمًا، لكنها، جعلتني في متاهات الأسئلة، بلا جواب، هل نحن هكذا، ثمة الكثير من الأسئلة لا نلقى لها جوابًا شافيًا، سوى التعايش معها، بأي حال من الأحوال.

ومن باب الفضول، أخذت أناقش كلمتها، بين ذاتي وذاتي، بعد خروجي من المنزل، توجهت فورًا إلى مكان جلوسنا في البحر، ولكن هذه المرة وحيدًا، أمي ليست معي.

الصمت، أن يمتلك الإنسان الصمت في زاويته الجمالية، وهو الصمت الجميل، صمت، الذين يدركون، الذين يعرفون لون الحكاية، وأبجدياتها، ما تفرزه الحالة النفسية للآخر، كي لا تشعر بالألم، ينغرس في ذات، فقط الصمت الجميل، يكسبك الراحة.

وكيف تقرأ أفكار الآخرين؟

أن تقرأ كتابًا، فإنك لا تقرأ أحرفًا جامدة، إنك تدخل إلى ذات الكاتب، تُشاركه أفكاره، يُثري عقلك، يُحفز الأسئلة فيه، يفتح لك شرفات، قد لم تكن تعرفها مُسبقًا، أيضًا أن يكون لديك حسن الاستماع، التفكر في الكلمات، ورد عن الإمام علي “ع”، قوله: تحدثوا، تُعرفوا، فإن المرء مخبوء، تحت طي لسانه، يقال: خذ الآراء، واضرب بعضها ببعض، يتبين لك الصواب من الخطأ.

وعليه، عندما، تتحلى بالصمت الجميل، وتقرأ أفكار الآخرين، عندها، ستتقبل ألوان أمزجتهم، وتقلباتها، وبالنتيجة، كما قالت أمي، تكون أنت الرابح الأول.


error: المحتوي محمي