يومًا أو بعضَ يوم!

سبقني صديقٌ لي بترك العمل قبل قرابة الخمس وعشرين سنة، ولم أكن أتصور كم سريعًا مرت على تركه العمل تلك المدة الطويلة. التقيته فكان هذا اللقاء والذكرى كما صورها الشاعر أبو الحسن التهامي حين قال عن قصر مدة الحياة:
فالعيشُ نومٌ والمنيَّةُ يقظةٌ
والمـرءُ بينهـما خيـالٌ سـارِ

كل المسافات الزمنية في دنيا البشر تساوي “يومًا أو بعضَ يوم”، إذ وفي مشهدٍ ساخر يسأل الله صنفًا من العباد ممن أنكروا البعثَ وكفروا به عن مدةِ حياتهم في الدنيا فكان جوابهم: “يومًا أو بعضَ يوم”. ولما أماتَ الله عزيراً مائة سنة كاملة ثم أحياه وسأله عن مدةِ موته أجاب عزير: “يومًا أو بعضَ يوم”. ونام أهلُ الكهف ثلاثمائة وتسع سنوات، ولما استيقظوا أيضًا اعتقدوها “يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يوم”!

خمس وعشرون سنة شعرنا أنا وهو بعدها أننا نمنا لبعض الوقت، “يومًا أو بعضَ يوم”، لكن الحقيقة أنها كانت تسعة آلاف ومائة وخمسة وعشرين يومًا حدثت فيها الكثير من الأحداث، فكل السنين هي رقدة وسنان غلبه النعاسُ فنام، وإن طالت فيومًا أو بعضَ يوم. سنوات تغيرت فيها أشكالنا الخارجية وطُرق تفكيرنا ونظرتنا للأمور، ولأنَّ هذه الأشياء تغيرت شيئًا فشيئًا، لم يُرعبنا ولم يرهبنا التغيير.

فعلاً، كما قال الإمام علي بن أبي طالب (ع): “الناسُ نيام فإذا ماتوا انتبهوا”. فالدنيا أحلام مختلفة ومتداخلة ومضطربة، أحلام نأكل فيها ونشرب ونتزوج وننجب ونحب ونكره ونكسر ونعمر، والآخرة حقيقةٌ ويقظة، إما نستيقظ فيها على حلمٍ أجمل أو كابوسٍ فظيع. وقد كتبَ الفيلسوف الصيني  جوانغ زي، في نحو القرن الرابع قبل الميلاد، عن حلم الفراشة: “رأيتُ أنا جوانج زي مرة في منامي أني فراشة ترفرف بجناحيها في هذا المكان وذاك، إنني فراشة حقاً من جميعِ الوجوه. ولم أكن أدرك شيئًا أكثر من تَتبعي لخَيالاتي التي تشعرني بأني فراشة. أما ذاتيتي الإنسانية فلم أكن أدركها قط. ثم استيقظتُ على حين غفلة وها أنا ذا منطرح على الأرضِ رجلًا كما كنت، ولست أعرف الآن هل كنت في ذلك الوقت رجلاً يحلم بأنه فراشة، أو أنني الآن فراشة تحلم بأنها رجل”.



error: المحتوي محمي