على مر العصور، تسبب الإنسان في إفساد البيئة التي يعيش فيها، وأخل بتوازنها وجلب لنفسه مخاطر ومشاكل عديدة لم يقدر على تحملها.
هذا العصر الذي نعيشه اليوم عصر العلوم والتقنيات الحديثة وأنماط الحياة السريعة، دفعت بعجلة التقدم إلى الأمام، فبرغم أنها أضافت تحسينات لا تنكر إلا أنها أفرزت فيه شيئاً من سمومها، هي ضريبة يدفعها الإنسان من صحته وحياته، فهناك المواد الكيميائية المستخدمة، وهناك سوء الاستخدام، وهناك سوء الاستهلاك وغيرها، وهذا ما دفعنا لتلمس وتحديد بعض معالم ذلك التقدم ومسؤوليته عن التسممات.
عندما نطرح اصطلاح “الملوثات البيئية”، فإن تداعيات خطيرة تروح وتجيء في الذهن، هل الناس وهم يأكلون يضعون في حساباتهم هذا المصطلح؟! هل الملوثات الخارجية وجدت طريقها إلى داخل بيوتنا؟! ولن نتطرق هنا إلى مزايا ما يعرف بـ “المباني الخضراء” وصداقتها مع الطبيعة المسالمة للإنسان، ومن دون الحاجة إلى الدخول في تفاصيل الأنشطة الإنسانية المسؤولة عن تراكم المخلفات والانبعاثات الملوثة للبيئة، يكفي القول هنا إن بعض الممارسات التي ألفناها ساهمت في مرض البيئة الداخلية.
الإنسان يأكل ويتنفس ويعمل ويتحرك، ويمارس وجوده ونشاطه في البيئة التي يعيش فيها، تبدأ من المنزل البيئة الطبيعية التي سمحت للشمس أن تدخل وللهواء أن ينفد، بيئة داخلية تحقق لساكنها أكبر قدر من الراحة، والظروف الصحية الملائمة، يعيش فيها حياة تضمن له الصحة والسلامة.
في الوقت الذي يضيق فيه الكثيرون من الصيف، وشمسه القائظة، فيهربون إلى الشواطئ، أو المرتفعات، والبحث عن المبردات والمنعشات، هناك من يلزمون منازلهم تحت رحمة المكيفات، وعندما تتدنى الحرارة إلى مستويات تزعجهم، فيستعمل لهذه الغاية وسائل التدفئة أياً كان نوعها.
منازلنا صيفاً وشتاءً منافدها على الخارج أكثر إحكاماً لوقت طويل، فلا بد وأن يتسبب بمشكلة إذا كان البيت مسكوناً بعدد معين من الأشخاص، فخلال عملية التنفس يستهلك الإنسان الهواء النقي وتنخفض نسبته ويصبح الهواء فاسداً وتبدأ آثاره السلبية بالظهور على من يتنفسه، فضوء الشمس كفيل بغسل الهواء الذي نستنشقه من الكثير من العوالق والمركبات الكيميائية التي يختنق بها هذا الهواء في الداخل.
ملوثات البيئة المنزلية هي مواد كيميائية وعضوية وعوالق، تتراكم داخل المنزل وتؤثر على العمليات الحيوية، تدخل جسم الإنسان عند استنشاقها مع الهواء خلال الجهاز التنفسي وكذلك الجهاز الهضمي عند تناول الأطعمة والأشربة الملوثة بها، وكذلك عن طريق الجلد عند سقوطها على أجزاء من الجسم وخاصة عند المتعاملين معها، وبالرغم من اختلاف الآراء حول النواحي السلبية والإيجابية، إلا أن قبل استخدامها يلزم معرفة جيدة بخصائصها الفيزيائية والكيميائية والبيئية والسمية، وهذه الخصائص غير معروفة من قبل الكثير من الناس، استخدامها بشكل علمي من أجل ضمان تفادي سلبياتها الخطرة، أو الحد من انتشارها وتقليل ضررها إلى مستوى أقل بمعنى أنها لا تلحق الضرر بأي من مكونات النظام البيئي.
الواقع كل شيء تغير، اليوم نرى البيئة الداخلية مريضة، وبمرضها أصيب ساكنها بأمراض كثيرة،
بدأت تغزو الكيماويات بيوتنا، وتنغص حياتنا، مسببة لنا الكثير من الاضطرابات الخطرة على صحتنا وسلامة أبداننا.
صيحات تحذيرية من تراكم السموم الكيميائية واستخدامها دون قيود، فوجود الملوثات في منازلنا “المطابخ والحمامات وغرف الغسيل والمعيشة وحتى غرف نومنا”، بحد ذاته يعتبر مصدراً للعديد من الأمراض، جملة من التحديات بدأت تشكل قوى تضغط وتدفع إلى مراجعة الكثير من الممارسات التدميرية، فالأطعمة الفاسدة، وتراكم المخلفات والانبعاثات الملوثة في بيوتنا يعني لنا صداعاً وتعباً وكسلاً وإرهاقاً، وقد تكون المسألة أخطر عندما نتعرض إلى أمراض لا ينفع معها دواء.
المنازل مريضة، ومصادر المرض متعددة، وغالباً الناس لا يدركون الخطر من تواجد الكيماويات فيها، عدد كبير من المواد الملوثة والعوالق الخطرة تجد طريقها إلى داخل أجسامنا بالغذاء والتنفس أو بطرق أخرى مسببة لنا الكثير من الأمراض.
ينصح الأطباء بوجوب تهوية المنزل بالكامل مرتين خلال اليوم، تشرّع فيها الأبواب والنوافذ تماماً لبضعة دقائق، مرة في الصباح ومرة قبل النوم، ولكن طالما أن بيوتنا تعتمد على غير هذا النظام، فلا بد من التوقف أمام القضية انطلاقاً من بيوتنا وحالتها الحاضرة بشكل عام.
• في منازلنا نشتري كميات كبيرة من الأغذية، ولكن قد لا نحسن حفظها في ظروف صحية لفترة طويلة، أو حتى ننسى استعمالها لأننا اشتريناها استغلالاً للسعر المغري وليس للحاجة إليها، ثم قد نفاجأ بهذه المواد بعد فترة قد فسدت وسببت لنا حالات تسمم قاتلة.
• في منازلنا حيث يستخدم الناس المنظفات والمبيضات والملطفات والمطهرات والعطورات والمبيدات، ومعها شيء من المذيبات الكيميائية والمواد غير العضوية، هذه المواد الكيميائية مصدر للكثير من الانبعاثات الضارة، هي مواد عالية السمية؛ حيث تحيط أنفاسنا وتلعب دورًا كبيرًا في حدوث خلل في أجسامنا؛ وذلك عند استخدامها أو المبالغة في استخدامها.
الكثير يشترون هذه المنتجات لأنهم يعتقدون أنها تمنح الوقاية الصحية لهم ولعائلاتهم، لكن معظمهم لا يدركون إساءة استخدامها ومخاطر الإفراط في استعمالها وتأثيرها على الصحة العامة، ولكي يتسنى لهم ذلك لا بد لهم من قراءة التعليمات والتحذيرات وطريقة الاستعمال الآمن للمنتج لضمان استخدامه بصورة جيدة وتحقيق فوائده الصحية، وكذلك تفادي الاستخدام الزائد، وأيضا نتجاهل الإعلانات الترويجية.
• في منازلنا أقراص وشراب وكبسولات وعلاجات تقليدية تصل إلى عشرات العقاقير الطبية والصيدلانية، ولا شك أن اتساع محيط دائرة ما نتعاطاه من الأدوية في منازلنا يكبر شيئاً فشيئاً، كميات مبالغ فيها، مما أدى إلى تكدُّس خِزانات المنازل بكميات هائلة منها، تحولت بيوتنا أمكنة وأرفف ومستودعات للأدوية، وترك أمر تناولها بصورة مفتوحة دون توصيات صحية، ظاهرة مرضية شكلت خطراً محققاً، وتهديداً للحياة في بيوتنا.
• وإلى منازلنا جلبنا مواد التعبئة والتغليف بجميع أنواعها كالحاويات والأطباق والأكواب ورضاعات الأطفال والزمزميات والملاعق والشوك والسكاكين والمغلفات البلاستيكية وأعواد تناول الطعام المصنوعة كلها من البوليمرات والمغلفة بالشموع الاصطناعية، تحدث بينها وبين الأطعمة والأشربة هجرة إلى داخل أجسامنا والتي تصنف محتوياتها ضمن قوائم السموم.
• في منازلنا نحرق أعواد العود أو البخور وفي غضون لحظات ينتشر الدخان الذي يحتوي على مركبات كيميائية، يستنشقه من في المكان، كما يتطاير رذاذ ملطفات الهواء “الأيرسول” وتفرغ محتوياتها في أجواء المنزل، وتظهر علامات صعوبات التنفس على من لديه مشاكل تنفسية وأمراض حساسية صدرية.
• في منازلنا هناك مخاطر قد تأتينا من خلال الحيوانات التي تسكن معنا في نفس المنزل، أمراض خطيرة ومعدية تنتقل من الحيوان إلى الإنسان، منها ما هو قاتل ومشابه في أعراضه لأمراض أخرى، مثل القطط والكلاب، يمكن أن تنقل من 5 إلى 6 ديدان طفيلية كاملة النمو وعلى رأسها الديدان الكلابية التي تصيب الكبد والطحال بالتدمير الكامل، والكلب ينقل أكثر من 22 ميكروبًا وفيروسًا وطفيلاً من خلال اللعاب أو البراز، وهناك مرض داء القط “TOXOPLASMA” وهو من الأمراض الخطيرة جدًا التي تنتقل من القطط إلى الإنسان، خاصة الفتيات والسيدات، وتسبب الإجهاض لدى المرأة إذا كانت حاملاً، وهذا إذا كانت المرأة حسنة الحظ، لأنها لو كانت سيئة الحظ فسوف يصاب الجنين بتشوهات خطيرة جدًا.
وعلينا أن ننتبه إلى طيور الزينة والببغاوات على سبيل المثال تحمل بعض الميكروبات التي تنتقل عن طريق الجهاز التنفسي من خلال تطايرها في الهواء لتلتصق بجلد ورأس الإنسان، وتؤدي إلى الإصابة بالتهاب رئوي مزمن.
يعرف القليل منّا أن الهواء داخل بيوتنا فيه من التلوث والانبعاثات الضارة ما يفوق ما هو موجود في الخارج، خطرة على صحة من يسكن هذه البيوت، لأول مرة نشعر أننا مهددون يحيق بنا الخطر، وأن عدّونا المشترك هذه المرة هو ما جنته حضارتنا وما تقترفه أيدينا كل يوم.
استبعاد تلك المنتجات من قائمة المشتريات قدر الإمكان، فالأمر بيدك، من المؤكد أن أكثر مسببات الأمراض مرتبطة بالمواد الكيميائية، لنجعل منازلنا أكثر أماناً، وحينئذ سنتمكن من الحد من التلوث الداخلي للمنزل الذي يسببه الانغلاق والتكدس.
فيمكنك في كل الحالات أن تجعل من منزلك مكانا صحياً، يعطيك شعورًا بالراحة والسكون.
هناك طرق للمحافظة على منازلنا نظيفة وعائلاتنا مأمونة، وتستحق أن نعيش فيها، بيئة صحية مريحة وليست مستودعات لتراكم الملوثات والغازات الضارة، فيها ما نريد وما لا نريد.
صحيح أننا نهتم بسلامة غذائنا ونظافة أبداننا، وصحيح أننا نلمس نتائج صحية واضحة، ولكن ليس معنى ذلك أننا قد جنينا الفوائد المطلوبة منه كاملة، فمن الضروري أن نحافظ على سلامة بيئتنا التي نعيش فيها لتكتمل حلقة الصحة.
نحن بحاجة إلى وقفة تعيد إلينا رشدنا حتى لا نكون في النهاية ضحايا ظلمنا وجهلنا.
كم منّا تمنى لو أن بيته في مكان هادئ مريح، وحبذا لو كان في حضن الطبيعة وأجوائها؟
منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.