قبل سنوات فوجئت بابن أختي ذي الأربع سنوات يتألم، وحين سألته عن مكان ألمه أجابني: “كاحلي يؤلمني”، لم أستغرب استخدامه الفعل الفصيح عوض عاميتنا الدارجة “يعورني” بقدر ما تفاجأت بكلمة “كاحلي”، تلك الكلمة التي كان يدرك معناها جيدًا، عفوًا، أقصد يدرك مكانها في جسمه تحديدًا، وذلك ما اكتشفته بعد سؤالي إياه: “ما الكاحل؟”.
وأنا أسمعه كنتُ فخورةً جدًا أنه اكتسب حبه الفصحى منّا، وأنه يحاول استخدامها في أغلب كلامه، وبالرغم من أن الأمر غير مهم كثيرًا بالنسبة للبعض، كما أن آخرين قد يرون استخدام الفصحى حالة لا تليق بطفل، إلا أننا -عائلته- كنا نعلم أنها بالفعل حالة وستزول أو ستضعف مع الوقت، مع كثرة الاختلاط بمحيط في عمره، وبالرغم من ذلك أحببناها أن تطول، فجميعنا يعلم أن ذلك سيؤثر على استخدامه الفصحى في دراسته بعد أن يكبر.
المؤلم أن فصحى صغيرنا كُسِرت عند التحاقه بالروضة، يقولها بكل بساطة: “المعلمة لا تتكلم هكذا”؛ لأنه -كأي طفل- لابد من أن يعشق تقليد معلمته الأولى، وشيئًا فشيئًا تخرج في روضته بعامية مع مرتبة الشرف.
ليس ذنب تلك المعلمة أنها تحب أن تقترب من طلابها بلغة تشبه لغتهم، وربما هو ليس تقصيرًا تامًا منها، لكن ما يضرنا لو جعلنا اللغة السليمة هي لغة تخاطب بين المعلم والطالب منذ مراحله الأولى؟!، ثم أين الخطأ لو أفردنا في بيوتنا ساعةً واحدة نحاول فيها جبر الكسر اللغوي الذي يعاني منه غالبية أبنائنا في هذا الوقت؟!.
مؤلم حقًا أن نبحث عن تطوير أبنائنا في نواحٍ كثيرة، ونغفل هذه الناحية تمامًا، وهذا ما لاحظته عند الكثيرين، بالرغم من أننا نحتاج لأن تكون عربيتنا لا تشكو من عرج، خصوصًا في عبادتنا، فنحن لا نعلم ما يحدث حينما ينصب الفاعل أو يرفع المفعول.
صادفتني في رحلة الحج قارئة بصوتٍ جهوري خاشع، تسمع لحنها الحزين فتكاد تبكي لشدة تأثرها، إلا أن لحظة الاستشعار تلك تلاشت وأنا أسمعها تقرأ مقطعًا معروفًا في دعاء “كميل”: “اللهم اغفر لي كل ذنبٍ أذنبتَه”، بدلًا من أن تضم تاء الفاعل فتحتها، وعوضًا عن كون المتكلم هو المذنب أصبح المخاطب -جلّ وعلا- هو المتصف بالذنب!!!!
ربما لا يلحظ ذلك اللحن كثيرون، وقد يعلق بعضهم أن الأمر من التوافه لأن يقف عنده مستمع، لكن ماذا لو تخطينا الدعاء إلى الصلاة، أو قراءة القرآن الكريم، ماذا لو سمعت طفلةً تردد التشهد بطريقة خاطئة وحين تحاول تصحيح اللحن لها تجيبك أمها: “لا ضرر، أنا أتشهد بنفس الطريقة!”، وما قولكم في سيدة توجهت لأداء مناسك الحج، وحين اختبر صلاتها أحد المرشدين في الحملة وجدها تقرأ سورة الفاتحة بأخطاء لا تغتفر، والعلة: “هكذا تعلمتها”، الطامة أن تلك السيدة متعلمة وتخرجت في المرحلة الثانوية، كيف اعتمدت على حفظ خاطئ لكلام الله، ورددته في صلاتها طوال تلك الأعوام؟!
اهتمام كبير نوليه أبناءنا لتطوير معارفهم في الحاسب والرياضة واللغات الأجنبية، وإلى جانب ذلك تجاوز ونكات نلقيها أمامهم على لغتنا الأم، فهل يستقيم لسان طفل يقوده لسان أم يحتاج جبيرة!.